ثورات مصر الثلاث : قوة التاريخ خلف الثورة

Omnia EL SHAKRY

المترجم : SAADA Mahmoud


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

عندما اندلعت انتفاضة مصر لعام 2011، سمعنا النقاد عبر وسائل الإعلام وأصدقاء وزملاء يخوضون في البحث عن استعارات ملائمة لوصف الاحتجاجات الجماعية والثورة في مصر. وبقدر ما عُبِّئ "التاريخ" في هذه النقاشات، كان الأمر على وجه العموم تكرارا ومماثلة. ومن هنا استُذكرت التواريخ الآتية: جدار برلين وميدان تيان آن مَن وانتفاضة فلسطين الأولى والثورة الإيرانية وكوميونة باريس والثورة الفرنسية، بالإضافة إلى ثورتيْ مصر لعامي 1919 و1952. ولكن هل تخفي هذه المقارنات الحية أكثر مما تكشف؟ في الواقع، يمكن الادعاء أن من أكثر المظاهر اللافتة للنظر في النقاشات الإعلامية المعاصرة بشأن مصر مبارك هو غياب أي حس حقيقي  بالتاريخ. إذ لا يكفي ملء هذا الفراغ بالمقارنات البلاغية والحرية الشعرية.

في حين أن فهم عملية الخصخصة والتهميش الاقتصادي والنزعة الاستهلاكية والتعديل البنيوي، التي نشير إليها بمصطلح "الليبرالية الجديدة"، يُعد جوهريا من أجل فهم تكشف الأحداث الحالي، لاسيما من حيث وجود فروق اقتصادية شاسعة وإفقار للجماهير، فلا يمكن للتركيز فقط على الليبيرالية الجديدة وحدها أن يكون كافيا لمعالجة مسألة العلاقة التاريخية في مصر بين الحاكم والمحكوم. كيف سيبدو إذن المنظور التاريخي على المدى البعيد أي الرؤية البنيوية الأعمق لأحداث مصر؟  وإذ أركز على الاحتجاج والتعبئة الشعبيين في الثورات المصرية للأعوام 1919 و1952 و2001، فإنني أركز على الديناميّات الداخلية لكل واحدة من هذه الثورات والانقطاعات بينها، حيث أصفها بالوطنية والسلبية والشعبية على التوالي.

 الأولى من نوعها في تاريخ مصر

ثورة عام 1919

حققت مصر، والتي احتلتها بريطانيا فعليا منذ عام 1882، استقلالها عن الحكم الاستعماري عقب احتجاجات متواصلة. فعلى أعقاب ثورة 1919 وبعد سنتين من المفاوضات المتعثرة، ألغت بريطانيا الحكم العرفي ومنحت مصر استقلالا شكليا أحادي الجانب عن الحكم الاستعماري في شباط/فبراير 1922. وبالرغم من ذلك استمرت بريطانيا في السيطرة على: أمن الاتصالات الإمبريالية والدفاع عن مصر وحماية المصالح الأجنبية ومصالح الأقليات والسودان. وكان لثورة 1919 مرحلتان: الفترة العنيفة والقصيرة التي اندلعت في آذار/مارس 1919 والتي تضمنت تعبئة واسعة النطاق على يد الفلاحين في المناطق الريفية، وقد قمع الجيش البريطاني هذه الثورة؛ ومن ثم جاءت المرحلة الطويلة ابتداءً من نيسان/أبريل 1919 والتي كانت أقل عنفا وأكثر انتشارا في المناطق الحضرية وامتازت بمشاركة واسعة النطاق شملت الطلاب والعمال والمحامين وغيرها من المهن.

لقد عاشت مصر أزمتين اقتصادية وسياسة بسبب الحرب العالمية الأولى تمثلتا في اتساع بيروقراطية الدولة الاستعمارية والتجنيد الإجباري للمصريين واستيلاء الدولة على إنتاج القطن وتزويد القوات العسكرية البريطانية بالمؤن إجبارا. وقد أدت هاتان الأزمتان إلى أزمة في السيطرة السياسية. وبسبب التنافس على الحكم السياسي بين الأفندية (القوميين من الطبقة الوسطى) والنظام الاستعماري وُلد حزب الوفد (الحزب السياسي القومي الأساسي في مصر طوال معظم سنوات النصف الأول من القرن العشرين) واندلع عصيان عام 1919. ولكن هل كانت ثورة 1919 انتفاضة موحدة التأم فيها الفلاحون والعمال والسياسيون دعما للقومية الحديثة الولادة في وقت فشلت فيه بريطانيا في منح مصر استقلالها الموعود؟

في السياق الحضري، مثلت أحداث عام 1919 تعزيزا للحركة العمالية (نقابات العمال والنشاط العمالي والإضرابات التي عمّت البلاد) والتي تشكلت عند تقاطع الوعي الوطني والطبقي.1 لقد أحيطت حركات العمال هذه بالقومية المناهضة للاستعمار في ذلك الوقت، في حين أن الجماعات اليسارية المتطرفة عجزت عن كسب موطئ قدم في سياق برنامج الوفد القومي المعتدل والذي يقضي بإلغاء الاستغلال الخارجي الاقتصادي والسياسي. بالإضافة إلى ذلك، لم تتمكن تعبئة الفلاحين والفتن القصيرة الأمد التي عصفت بالنظام الريفي من التحول إلى ثورة فلاحين واسعة النطاق. كما استمر حزب الوفد (الساعي إلى السيادة السياسية والديمقراطية البرلمانية) في التذبذب طيلة فترة حكمه بين الشعوبية والمحافظة الاجتماعية. وقد جادل البعض معتقدين أن الدعوة القومية من أجل "الاستقلال والحرية والعدل" لم تكن بالنسبة للفلاحين تحمل نفس المعنى الذي حملته بالنسبة للنخبة المثقفة2 الحضرية، فقد سعى هؤلاء الفلاحون إلى تحرير أنفسهم من استعمار مصالح ملاك الأراضي لحياتهم الاقتصادية. ومهما يكن المنظور الذي نتبناه، فإن من الواضح أن ثورة 1919 عنت أشياء مختلفة لشرائح الشعب المختلفة. ولكن على الأقل من منظور العناصر الوطنية المهيمنة المسيطرة الناشئة، فإنها لم تسع إلى التغيير الجذري للبنية الاجتماعية أو العلاقات الطبقية، بل إلى التأكيد على القومية الإقليمية في وجه الاستعمار البريطاني. وبعبارة أخرى، فقد كانت ثورة قومية. 

ثورة عام 1952

قبل عام 1952، تشكل المشهد السياسي في مصر من القصر والوفد وعدد من مجموعات المعارضة تراوحت توجهاتها بين الشيوعيين والإخوان المسلمين. واتسم هذا المشهد الفكري المتنوع جدا بالالتزام بالقومية الاقتصادية وبالرغبة في تخليص مصر تماما من السيطرة الأجنبية لاسيما وجود الجنود البريطانيين على التراب المصري. كما كانت المسألة الكبرى بشأن الاستقلال السياسي التام تتشابك مع المصاعب الاقتصادية التي واجهها أغلبية السكان. وكانت السنوات التي عقبت عام 1929 سنوات كساد اقتصادي في جميع أنحاء العالم، وقد تدنت الأجور الزراعية بنسبة أربعين في المائة تقريبا. واتسمت الثلاثينيات باضطرابات واسعة النطاق مع ازدياد نشاط الفلاحين والعمال والنقابات العمالية، واهتياج الطلاب، والمظاهرات.

أبعد الانقلاب العسكري لعام 1952 والثورة التي قادها جمال عبد الناصر والضباط الأحرار العاهلَ الآيل للسقوط الملك فاروق وعُين محمد نجيب رئيسا للجمهورية الجديدة بدلا منه. ومن شأن فهم هذه الفترة من التاريخ المصري أن يساعد نوعا ما في توضيح المواقف المتناقضة إزاء الجيش في مصر وتوقعات المحتجين الأولية بأن يساعد الجيش في حمايتهم من أجهزة الأمن والشرطة العنيفة في مصر.

انصبت تفسيرات الناصرية على جهاز الدولة. فقد تركزت النقاشات على بنية الدولة السلطوية البيروقراطية التي اتسمت بعملية تنمية اجتماعية اقتصادية غايةً في التمركز في الدولة، وبرجوازية دولة شركاتية متوارثة، ونظام الحزب الواحد المعزز بجهاز الدولة القمعي، وأيديولوجية قومية شعوبية. ويرى المفسرون أن هذه التشكيلة السياسية أثبتت عدم نجاعتها في إعادة البناء الجذرية للدولة والمجتمع والاقتصاد في مصر، حيث أشير إلى ذلك من خلال الإخفاق في بناء دولة قومية ديمقراطية تمتاز بأنها تماما صناعية، ورأسمالية أو اشتراكية، وليبرالية.3 ذلك هو "نموذج الدكتاتورية العسكرية السلطوية" التقليدي الذي كنا نقرأ عنه في الصحافة. لكن هذا النموذج المتآلف أخفق في استيعاب تعقيد الناصرية، بمعنى أنه أخفق في تفسير "اغترابات" الناصرية و"ارتباطاتها".4

اتسمت الناصرية في الواقع بأنماط جديدة من الحكم والخبرة والمعرفة الاجتماعية، وهي أيديولوجية الرعاية الاجتماعية وممارستها والتي ترتكز على أجهزة الدولة بوصفها حكَمٌ ليس للتنمية الاقتصادية فحسب بل أيضا للرعاية الاجتماعية. وقد قام نموذج الرعاية الاجتماعية هذا على أساس عهد أخلاقي بين الشعب والدولة، أي أنه عقد اجتماعي يُتخلى فيه عن إمكانية التغيير الثوري أو السياسي الديمقراطي لقاء إصلاح اجتماعي وتحسين لظروف الطبقات العاملة تدريجيا. كما أنه استند إلى رأي "الشعب" بصفته محرك توليد التاريخ وبصفته موارد الثروة الوطنية (محرك تنميته، إذا جاز التعبير)، وإلى سياسة تخطيط وهندسة اجتماعية تدخلية. وبالطبع لا ينبغي فهم الرعاية الاجتماعية على أنها عملية خيرية ترعى الدولةُ بموجبها المواطنين موجهةً إياهم إلى رفاههم، بل ضمنت تلك الرعايةُ العمليةَ الاجتماعية والسياسية لإعادة إنتاج علاقات اجتماعية خاصة استندت في أغلب الأحيان إلى العنف والإكراه من أجل الحد الجزئي من الخصومات الطبقية على الأقل.5

لقد استند هذا النموذج إلى عنف أساسي يمكن إرجاعه إلى ربيع عام 1954 عندما طالبت جبهة موحدة من الوفديين والشيوعيين والإخوان المسلمين وغيرهم بإنهاء الدكتاتورية العسكرية والعودة إلى الحكم المدني والنظام الدستوري. فقد اجتاحت المظاهرات التي قادها الطلاب إلى حد كبير الشوارع في آذار/مارس فأحاطوا بقصر عابدين وطالبوا بحريات سياسية. وبعد سلسلة من المفاوضات والمناورات السياسية، عزز ناصر حكمه مصبحا رئيسا للوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة في نيسان/أبريل 1954.6 من الناحية السياسية، سعى النظام إلى احتواء إمكانية حدوث أي حركة شعبية ذات قاعدة عريضة، ومن هنا جاءت محاولات الاستقطاب والعنف المرتكب ضد منافسَيها الفكريَين الرئيسيَين أي الإخوان المسلمين واليسار الشيوعي الماركسي، إضافة إلى إلغاء الأحزاب والتنظيمات السياسية. وكذلك اتسمت سياسة النظام تجاه النشاط العمالي والعمل النقابي بأنها سياسة ذات شقين: استقطاب القادة العماليين والنقابيين من خلال دمجهم في أجهزة الدولة، ومراجعات واسعة لتشريعات العمل (كتشريعي الأمن الوظيفي والفوائد المادية المحسَّنة). وتقلص العمل العمالي المستقل واستقلال النقابات العمالية السياسي بفعل حظر تشريعي فُرض على الإضرابات.7 وهذا ييسر سياقا هاما أوسع لفهم المغزى التاريخي للنشأة الحديثة للنقابات العمالية المستقلة في القطاع العام والتي نشطت في احتجاجات عام 2011.

ركز نظام ناصر جهوده على تفكيك أرستقراطية الأراضي القديمة من خلال الإصلاح الزراعي واستقطاب البرجوازية الصناعية القديمة لتأييد أهدافه الصناعية الوطنية الواسعة النطاق. إلا أن الطبقة الجديدة التي نشأت واتسم بها قطاع الدولة العام كانت عبارة عن "بورجوازية دولة" تشكلت من طبقة جديدة من التكنوقراط وكذلك من عناصر أقدم من البرجوازية الصناعية والمالية والتجارية الذين شقوا طريقهم إلى القطاع العام.8

وعليه فقد مثلت الناصرية تشكيل طبقة رأسمالية الدولة وتصفية منافسيها الفكريين الرئيسيين وقمع التعبئة الشعبية من أسفل حتى في الوقت الذي كانت فيه مقترنة بأيديولوجية رعاية اجتماعية قوية وخطابة كاريزمية مناهضة للإمبريالية (والتي عززتها على نحو كبير تعبةُ مصر في مواجهة العدوان الثلاثي وتأميمُ قناة السويس). ويمكن اعتبار نموذج الرعاية الاجتماعية هذا مساومةً فاوستية (صفقة مع الشيطان) تخلى فيها "الشعب" عن الحريات السياسية الديمقراطية وعن إعادة هيكلة أكثر جذريةً للنظام الاجتماعي مقابل برامج رعاية اجتماعية شتت الانتباه عن إعادة هيكلة العلاقات الطبقية من خلال التركيز على الإصلاحات الجزئية والمسكّنة لصالح الطبقات الكادحة، أي أنها كانت ثورة سلبية.

الليبرالية الجديدة لعام 1974

كان زوال الناصرية نتاجا معقدا لكل من التناقضات الفكرية والطبقية الداخلية ضمن سعي النظام للاشتراكية، والصراعات السياسية الخارجية المتمثلة في حرب عام 1967 مع إسرائيل. وتشكلت السياسات التحررية لانفتاح مصر في ورقة عمل رئاسية بقيادة أنور السادات عام 1974 في محاولة لإحداث انتقال إلى اقتصاد السوق الحرة. مهد الانفتاح الطريق لمجموعة مختلفة من العلاقات الدولية والمحلية والتي اتسمت بتقارب عامّ مع رؤوس الأموال الأجنبية وتعزيز القطاع الخاص من خلال سلسلة من الامتيازات الحكومية، وهذا يعني عملية مزدوجة داخلية وخارجية للتحرر.

ومن بين الملامح المميزة للانفتاح، والذي جرى من خلال سلسلة من التدخلات التنظيمية بالإضافة إلى تحول في الظروف العالمية للرأسمالية، إنشاءُ بيئة مشجعة لمشاريع الاستثمار الأجنبي (عادة على شكل مشاريع مشتركة) من خلال قانون استثمار جديد يتضمن امتيازات مختلفة (مثل الإعفاءات الضريبية للمشاريع الأجنبية)، واللامركزية وتحرير التجارة الخارجية، مما يشير إلى نهاية احتكار القطاع العام للتجارة الخارجية وانفتاح الاقتصاد على البضائع الأجنبية من خلال القطاع الخاص. بالإضافة لهذه الملامح، هناك تدفق واسع من المساعدات الدولية، وتحرير الحكومة للسياسة المالية، وإلغاء الشركات القابضة العامة التي كانت سابقا مسؤولة عن التخطيط والتنسيق والإشراف على القطاع العام، وصاحب ذلك إلغاء المركزية في وضع خطط الدولة الاقتصادية. كما كان هناك إضعاف لسيطرة الدولة على المؤسسات العامة من خلال تحرير قوانين الأجور والتوظيف والتي سُهلت في جزء منها من خلال إعادة تعريف القطاع العام، تاركةً لإدارة القطاع الخاص مزيدا من الاستقلالية9.

وكان أغلب وكلاء ومهندسي الانفتاح عبارة عن مجموعة: من أعضاء البرجوازية الصناعية القديمة الذين تمكنوا من التسلل إلى أجهزة الدولة بعد ثورة عام 1952، ومن أعضاء برجوازية الدولة التكنوقراطية التي نشأت أثناء حكم ناصر (الطبقة العليا من النخبة البيروقراطية والإدارية والموظفون المدنيون رفيعو المستوى والضباط والمسؤولون في الجيش، ومديرو شركات القطاع العام، الخ)، ومن البرجوازية التجارية الناشئة التي ازدهرت أنشطتها المالية بفعل سياسة الانفتاح وشملت تجار جملة ومقاولين ومستوردين ومصدرين، الخ10. ويوضح هذا جزئيا مدى تعقيد الأجهزة العسكرية المنقسمة بين مستوى النخبة في الجيش (نظرا لمشاركتها في تراكم رأس المال إبان سياسة الانفتاح) ومستوى الجنود العاديين، كما يوضح الفجوة الاقتصادية بينهما.

 جاءت سياسات التعديل الهيكلي بتفويض من صندوق النقد الدولي في التسعينيات، فتكثفت العمليات المذكورة أعلاه إلى حد كبير مع تركيز رأس المال في أيدي أفراد عددهم أقل من أي وقت مضى. وهكذا أُسست شركة أوراسكوم سنة 1976، وهي شركة عائلية ازدهرت كثيرا في ظل حكم مبارك، على يد المحتكرين الكبار القلائل أمثال عائلة ساويريس، وهم وكلاء محليين لـ هيوليت باكارد ومايكروسوفت11. ومن الجدير بالذكر أن نجيب ساويرس، وهو أحد الأفراد الذين راج صيتهم بفضل ما يسمى بـ"لجنة الحكماء"، قد بنى ثروته عند تقاطع عقود وعلاقات الحكومة (المدنية والعسكرية على حد سواء) مع المصارف الخاصة. هذا هو التمييز الذي يرسمه حاليا قادةُ العديد من الأعمال التجارية في مصر بين رأس المال القومي ورأس المال الليبرالي الجديد، في محاولة لتعزيز شرعيتهم. لكن هذا السعي للشرعية لن يكون سهل الاستيعاب في حقبة ما بعد مبارك من أولئك الذين عانوا كثيرا في ظل هذا النظام الليبرالي الجديد. لقد حدث في فترة الليبرالية الجديدة تراجع لقطاع الدولة وقضاءٌ على معظم شبكة الأمان التي كسبتها فوائد الرعاية الاجتماعية على يد الطبقات العاملة تحت حكم ناصر. وقد ترك الاستقطاب الهائل للثروة، والذي تفاقم بشكل كبير منذ التسعينيات، العديد من المصريين منهكين من البحث عن الغذاء والمأوى والكرامة الإنسانية، حيث يعيش 40 في المائة منهم تحت خط الفقر أو قريبا منه. والأهم أن هذه السياسات لم تمر مرور الكرام كما تدل على ذلك انتفاضة الخبز عام 1977 وتمرد قوات الأمن المركزي عام 1986. 

العام 2011

بدلا من اعتبار ثوران المحتجين العفوي بتاريخ 25/1/2011 على أنه إشارة على غياب التماسك الفكري أو السياسي، يمكن اعتباره نتاجا لتجمع تاريخي غير مسبوق لقوى وتناقضات معقدة. وكما ذكر محمد بامية في مقال بعنوان "الثورة المصرية: الانطباعات الأولى من الميدان،" فقد اتسمت الثورة بدرجة كبيرة من العفوية والهامشية والدعوة إلى حكومة مدنية وسمو المظالم السياسية فوق المظالم الاقتصادية. فقد رأينا مشاركة عدد كبير من المجموعات مختلفة التوجهات الفكرية، غير أنها كانت متماسكة ومترابطة في مطلبها المتمثل في إنهاء النظام القديم. وضمت هذه المجموعات عناصر قوية من النقابات العمالية وغيرها من الحركات العمالية والتي ألهمها إضرابُ عام 2006 في المحلة. لكن الحركات العمالية لم تمثل جميع أنواع المشاركين، فهناك بالطبع الحركات الاجتماعية الجديدة (سواء كانت يسارية أو نسوية أو قانونية قضائية أو مستندة إلى منظمات غير حكومية أو المنظمات التي يؤهبها الإعلام الاجتماعي) والتي نوقشت في مقال بول عمار "لماذا يُبعَد مبارك"، وكذلك الإخوان المسلمين الذين أعلنوا على الملأ التزامهم بحكومة مدنية وتعددية.

يعلم أولئك الموجودون على الأرض في مصر ماذا يريدون، فهم يريدون إنهاء حكم مبارك، وإنهاء قوانين الطوارئ التي تخنق التعبير السياسي في مصر منذ عام 1981، وحكومة مدنية بدستور جديد يضمن إقامة الانتخابات وتقليص السلطة السياسية، ومحاكمة المتورطين في المجازر المرتكبة ضد المحتجين. وبالرغم من مكائد الغرب، فمن الواضح وببساطة أن ما لن يكون هو دس أي قوى كانت من النظام القديم في مصر ما بعد مبارك، سواء بارونات سرقة الليبرالية الجديدة أو الثوار المضادين أو الانتهازيين السياسيين. ويجب أن تُسمع الأصوات من التحرير والإسكندرية والمحلة والسويس والمنيا المنادية بـ"قلب علاقات القوى."12 وبمعنى آخر، إنها ثورة شعب.

Notes

1جويل بينين وزكاري لوكمان، Joel Beinin and Zachary Lockman, Workers on the Nile: Nationalism, Communism, Islam and the Egyptian Working Class, 1882-1954 (Princeton: Princeton University Press, 1987) [عمال على ضفتي النيل: القومية والشيوعية والإسلام وطبقة العمال المصرية، 1882-1954].
2رينهالد شولز، Reinhard Schulze, “Colonization and Resistance: The Egyptian Peasant Rebellion, 1919,” in Peasants and Politics in the Modern Middle East, ed. by J. Waterbury and F. Kazemi, (Miami: Florida International Press, 1991) [الاستعمار والمقاومة: حركة تمرد الفلاحين المصريين، 1919] في كتاب [الفلاحون والسياسة في الشرق الأوسط الحديث]. انظر أيضا كتاب سيد عشماوي، الفلاحون والسلطة (القاهرة : ميريت، 2001) وإليس جولدبيرغ، Ellis Goldberg, “Peasants in Revolt—1919,” International Journal of Middle East Studies 24, no. 2 (May 1992), 261-80 ["فلاحون في حالة عصيان - 1919"، المجلة الدولية للدراسات الشرق أوسطية 24، العدد 2 (أيار/مايو 1992) 261-80.
3انظر على سبيل المثال كتاب أنور عبد الملك المعنون مصر: مجتمع عسكري ونظام جيش وتغير يساري واجتماعي في ظل ناصر، والذي تُرجم إلى الإنجليزية:Anouar Abdel-Malek Egypt: Military Society. The Army Regime, the Left and Social Change under Nasser, translated by Charles Lam Markmann (New York: Vintage, 1968). انظر أيضا كيرك بياتي، Kirk Beattie, Egypt During the Nasser Years: Ideology, Politics and Civil Society (Boulder: Westview Press, 1994) [مصر أثناء سنوات ناصر: الأيديولوجية والسياسة والمجتمع العسكري]؛ وجويل غوردون، Joel Gordon, Nasser's Blessed Movement: Egypt's Free Officers and the July Revolution (Oxford: Oxford University Press, 1992) [حركة ناصر المباركة: ضباط مصر الأحرار وثورة يوليو]؛ والمحرِران إيلي بوديه وأون وينكلر، Elie Podeh and Onn Winckler, eds. Rethinking Nasserism: Revolution and Historical Memory in Modern Egypt (Florida: University of Florida Press, 2004) [إعادة التفكير في الناصرية: الثورة والذاكرة التاريخية في مصر المعاصرة].
4في شأن الاغترابات عن الاشتراكية السوفيتية والارتباطات بها، انظر أليكسي يورتشاك، Alexei Yurchak, Everything Was Forever, Until It Was No More: The Last Soviet Generation (Princeton: Princeton University Press, 2006) [كل شيء كان للأبد إلى أن لم يعد هناك شيء: آخر جيل سوفييتي].
5كنت قد توسعت في طرحي عن الناصرية في كتاب The Great Social Laboratory: Subjects of Knowledge in Colonial and Postcolonial Egypt (Palo Alto: Stanford University Press, 2007), chapter 7 [المختبر الاجتماعي الكبير: مواضيع المعرفة في مصر إبان الحقبة الاستعمارية وفي الحقبة ما بعد الاستعمارية]. انظر أيضا كتاب أميرة الأزهري سنبل The New Mamluks: Egyptian Society and Modern Feudalism (Syracuse, NY: Syracuse University Press, 2000) [المماليك الجدد: المجتمع المصري والإقطاع المعاصر]، حيث ترى الناصرية على أنها استمرار لأنماط الإقطاع والمحسوبية القديمة والتي تندمج معها اشتراكية معاصرة.
6انظر كتاب شريف يونس المعنون الزحف المقدس (القاهرة: ميريت، 2005).
7انظر كتاب مارشا بريبستينبوسوسني، Marsha Pripstein Posusney, Labor and the State in Egypt: Workers, Unions and Economic Restructuring (New York: Columbia University Press, 1997) [العمل والدولة في مصر: العمال والنقابات وإعادة الهيكلة الاقتصادية]؛ انظر أيضا كتاب روبيرت بيانتشي، Robert Bianchi, Unruly Corporatism: Associational Life in Twentieth Century Egypt (Oxford: Oxford University Press, 1989) [النقابوية الجامحة: الحياة الترابطية في القرن العشرين].
8محمود حسين، Mahmoud Hussein, Class Conflict in Egypt (1945-1971) (New York: Monthly Review Press, 1978) [صراع الطبقات في مصر (1945-1971)].
9علي الدسوقي، Ali Dessouki, “The Public Sector in Egypt,” in Employment and Structural Adjustment: Egypt in the 1990s, edited by Heba Handoussa and Gillian Potter (Cairo: American University in Cairo Press, 1991) ["القطاع العام في مصر"، في كتاب بعنوان التوظيف والتعديل الهيكلي : مصر في تسعينيات القرن العشرين].
10ملك زعلوك، Malak Zaalouk, Power, Class, and Foreign Capital in Egypt (London: Zed Books, 1989) [السلطة والطبقية ورؤوس الأموال الأجنبية في مصر]. (London: Zed Books, 1989)
11تيموثي متشل، Timothy Mitchell, Rule of Experts: Egypt, Techno-politics, Modernity (Berkeley: University of California Press, 2002), chapter 9 [حكم الخبراء : مصر والسياسة التكنولوجية والحداثة].
12ميشيل فوكو، Michel Foucault, “Nietzsche, Genealogy, History,” Language, Counter-Memory, Practice: Selected Essays and interviews, edited by D. Bouchard (Ithaca: Cornell University Press, 1977), 154 ["نيتشه وعلم الأنساب والتاريخ،" اللغة والذاكرة المضادة والممارسة: مقالات ومقابلات مختارة].
1جويل بينين وزكاري لوكمان، Joel Beinin and Zachary Lockman, Workers on the Nile: Nationalism, Communism, Islam and the Egyptian Working Class, 1882-1954 (Princeton: Princeton University Press, 1987) [عمال على ضفتي النيل: القومية والشيوعية والإسلام وطبقة العمال المصرية، 1882-1954].
2رينهالد شولز، Reinhard Schulze, “Colonization and Resistance: The Egyptian Peasant Rebellion, 1919,” in Peasants and Politics in the Modern Middle East, ed. by J. Waterbury and F. Kazemi, (Miami: Florida International Press, 1991) [الاستعمار والمقاومة: حركة تمرد الفلاحين المصريين، 1919] في كتاب [الفلاحون والسياسة في الشرق الأوسط الحديث]. انظر أيضا كتاب سيد عشماوي، الفلاحون والسلطة (القاهرة : ميريت، 2001) وإليس جولدبيرغ، Ellis Goldberg, “Peasants in Revolt—1919,” International Journal of Middle East Studies 24, no. 2 (May 1992), 261-80 ["فلاحون في حالة عصيان - 1919"، المجلة الدولية للدراسات الشرق أوسطية 24، العدد 2 (أيار/مايو 1992) 261-80.
3انظر على سبيل المثال كتاب أنور عبد الملك المعنون مصر: مجتمع عسكري ونظام جيش وتغير يساري واجتماعي في ظل ناصر، والذي تُرجم إلى الإنجليزية:Anouar Abdel-Malek Egypt: Military Society. The Army Regime, the Left and Social Change under Nasser, translated by Charles Lam Markmann (New York: Vintage, 1968). انظر أيضا كيرك بياتي، Kirk Beattie, Egypt During the Nasser Years: Ideology, Politics and Civil Society (Boulder: Westview Press, 1994) [مصر أثناء سنوات ناصر: الأيديولوجية والسياسة والمجتمع العسكري]؛ وجويل غوردون، Joel Gordon, Nasser's Blessed Movement: Egypt's Free Officers and the July Revolution (Oxford: Oxford University Press, 1992) [حركة ناصر المباركة: ضباط مصر الأحرار وثورة يوليو]؛ والمحرِران إيلي بوديه وأون وينكلر، Elie Podeh and Onn Winckler, eds. Rethinking Nasserism: Revolution and Historical Memory in Modern Egypt (Florida: University of Florida Press, 2004) [إعادة التفكير في الناصرية: الثورة والذاكرة التاريخية في مصر المعاصرة].
4في شأن الاغترابات عن الاشتراكية السوفيتية والارتباطات بها، انظر أليكسي يورتشاك، Alexei Yurchak, Everything Was Forever, Until It Was No More: The Last Soviet Generation (Princeton: Princeton University Press, 2006) [كل شيء كان للأبد إلى أن لم يعد هناك شيء: آخر جيل سوفييتي].
5كنت قد توسعت في طرحي عن الناصرية في كتاب The Great Social Laboratory: Subjects of Knowledge in Colonial and Postcolonial Egypt (Palo Alto: Stanford University Press, 2007), chapter 7 [المختبر الاجتماعي الكبير: مواضيع المعرفة في مصر إبان الحقبة الاستعمارية وفي الحقبة ما بعد الاستعمارية]. انظر أيضا كتاب أميرة الأزهري سنبل The New Mamluks: Egyptian Society and Modern Feudalism (Syracuse, NY: Syracuse University Press, 2000) [المماليك الجدد: المجتمع المصري والإقطاع المعاصر]، حيث ترى الناصرية على أنها استمرار لأنماط الإقطاع والمحسوبية القديمة والتي تندمج معها اشتراكية معاصرة.
6انظر كتاب شريف يونس المعنون الزحف المقدس (القاهرة: ميريت، 2005).
7انظر كتاب مارشا بريبستينبوسوسني، Marsha Pripstein Posusney, Labor and the State in Egypt: Workers, Unions and Economic Restructuring (New York: Columbia University Press, 1997) [العمل والدولة في مصر: العمال والنقابات وإعادة الهيكلة الاقتصادية]؛ انظر أيضا كتاب روبيرت بيانتشي، Robert Bianchi, Unruly Corporatism: Associational Life in Twentieth Century Egypt (Oxford: Oxford University Press, 1989) [النقابوية الجامحة: الحياة الترابطية في القرن العشرين].
8محمود حسين، Mahmoud Hussein, Class Conflict in Egypt (1945-1971) (New York: Monthly Review Press, 1978) [صراع الطبقات في مصر (1945-1971)].
9علي الدسوقي، Ali Dessouki, “The Public Sector in Egypt,” in Employment and Structural Adjustment: Egypt in the 1990s, edited by Heba Handoussa and Gillian Potter (Cairo: American University in Cairo Press, 1991) ["القطاع العام في مصر"، في كتاب بعنوان التوظيف والتعديل الهيكلي : مصر في تسعينيات القرن العشرين].
10ملك زعلوك، Malak Zaalouk, Power, Class, and Foreign Capital in Egypt (London: Zed Books, 1989) [السلطة والطبقية ورؤوس الأموال الأجنبية في مصر]. (London: Zed Books, 1989)
11تيموثي متشل، Timothy Mitchell, Rule of Experts: Egypt, Techno-politics, Modernity (Berkeley: University of California Press, 2002), chapter 9 [حكم الخبراء : مصر والسياسة التكنولوجية والحداثة].
12ميشيل فوكو، Michel Foucault, “Nietzsche, Genealogy, History,” Language, Counter-Memory, Practice: Selected Essays and interviews, edited by D. Bouchard (Ithaca: Cornell University Press, 1977), 154 ["نيتشه وعلم الأنساب والتاريخ،" اللغة والذاكرة المضادة والممارسة: مقالات ومقابلات مختارة].