الكلام كونيا

Etienne BALIBAR

المترجم : LAARISSA Mustapha


  • fr
  • en
  • ar
  • tr
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

إن ما يستدعي  التفكير  في مستقبل الفلسفة كما عرفناها ومارسناها ويجعله في نفس الوقت عرضة للغموض (هذا إن كان بإمكان الفلسفة أن تظل تحت هذا الاسم   منفصلة عن ممارسات علمية واجتماعية )  هو كونها – لسبب من ضمن أسباب أخرى- تأتينا  باستمرار من  خلال اعتبارات  تخص الوضع الجغرافي والتاريخي  لأشكال الترابط بين الخطاب والمؤسسة1. و نذكر على نحو أدق جانبين لما يسميه التقليد الوسيطي اللاتيني بال:أونيفيرسيتاس   Universitas:جانب يتعلق بنظام العلوم الأكاديمية و بتلقينها من جهة،  وجانب يتعلق بتمثل العالم ككليةTotalityمن جهة أخرى. وهذه الاعتبارات هي بمثابة   رد فعل ضد الإضفاء المتزايد  لطابع  النسبية على  "للثقافة" التي، وإن لم تبتكر  الصيغة  الجامعية لتطور العرفان -knowledge ،  قد دققت هذه الصيغة وعممتها ، وغزت العالم  باسم القيم  والتقنيات الكونية  وأعني   الغرب( الذي تبقى حدوده كما نعرف غير قارة و موضوع نقاش )

أن  تكون الفلسفة مبحثا  أو مشروعا غربيا بالأساس ، فإن ذلك  يتضمن تناقضا صميميا بين نمط تفكيرها الخاص جدا (و"المحلي" « local »  وطموحاتها الكونية و"الشمولية"، وبالخصوص ادعائها تقديم إطار ومنهجية لمواجهة الثقافات). ولعلنا هنا بصدد طريقة جد مبسطة لطرح السؤال، ولكنها تسمح بشد الانتباه إلى صراع حاد لا يمكن التمادي في تجاهله2 .  و هذا الصراع  في نظري –أيا كانت درجة تعقيده-لا يمكن تجاوزه   بواسطة تكرار الأطروحة الأورومركزية التي تحكم فلسفات التاريخ  الكلاسيكية  ( والتي ليست كما يتضح  سوى  صيغة معلمنةsecularized للنموذج اللاهوتي المتعلق   بفكرة "الاصطفاء" « election ») – إذ  تعني أن التاريخ - بفعل معجزة أو  تحت ضرورة ما-  ينتج بمكان  أو حيز خاص  الشروط المميزة  التي تسمح ببلورة الكوني بوصفه كونيا (عن  طريق الإعلان  أو الاعتراف  أو التأسيس)، كما لا يمكن تجاور هذا الصراع بمجرد  ممارستنا  لنقد ذاتي  يطالبنا باستبطان   الوعي "بوهم الكوني" في قلب صياغتنا لمقولة الكوني نفسه،وخصوصا في شكل إلمام  واسع بوظائف الهيمنة التي أدتها  هذه المقولة ( وهي وظائف كان لها  تأثيرها في الصياغات  الفلسفية لهذه المقولة) ، وكذا أهمية  أشكال  الكبح اللازمة لذلك (أي مجموع  الاختيارات الاعتباطية والتقويمات العنيفة والمعايير المقيدة "للعقلانية"، والتي قد  تسمح بعودة مكبوتات قد تكون مدمرة بقدر  أو آخر  ) . إنني أميل إلى الاعتقاد بأننا في حاجة إلى  شكل من النقد غير المتمركز ، يكون بمقدوره مواجهة المفارقة الأساسية "للكونية الواقعية"3 أي لسيرورة ناتجة عن عولمة تلحق الخلل "بالنزعة الكونية" «     universalism » " كما تم تصورها في خضم  التاريخ الغربي، وكما تبناها الفلاسفة على اختلاف نزعاتهم(  من ترنسندنتالية ,وجدلية  ووضعية وتحليلية...) . يتعلق الأمر ببعض "المؤسسات الغربية"(الجامعة إحداها، ولكن أيضا السوق والتكنولوجيا والبيروقراطية...) التي  يتم تبنيها  كونيا على نحو متزايد ،في حين تتناقص هيمنة  خطابها الأصلي الخاص بإضفاء الشرعية على الذات . إن نقدا من هذا الصنف  لن يتم تحقيقه إلا من خلال  مواجهة بين وجهات نظر متعددة ومتباينة ، وسيكون هذا  النقد  بدوره نقادا صراعيا ، وإلا فلن يستطيع أن يغير شيئا يذكر في "المرآة" الفلسفية لمن يتطلع أن يكون  جامعا وكونيا.  ويبقى أن "اللغة" التي على هذا النقد أن يتبلور من خلالها لا تزال مجهولة ، ولربما تولد  هذه اللغة  في قلب المواجهة الصراعية نفسها.

في نهاية الأمر، إن ما يبدو وكأنه يضفي طابع التعقيد على حيز الفلسفة أو على موقعها هو أن  مشروع تطوير خطاب كوني حول الكوني – و ما أسمح لنفسي هنا بتسميته بقول الكوني بعقر المؤسسة "الكونية الاتجاه  بامتياز(وأعني الجامعة أو الأكاديمية)- قد كان دوما محط نزاع. فلم يكن للفلسفة خصوم فحسب، بل إنها لم تتوصل من التيقن من قول الكوني على طريقتها الفلسفية الخاصة إلا بفضل هؤلاء الخصوم. ويستوقفنا  هنا المشكل الذي صاغه كانط في مؤلفه: "صراع الكليات" ، في زمن بدأت فيه علومنا تحرز  على وضعها الحديث modern status(1798). لقد كانت الفلسفة تعتبر مبحثا  أقل شأنا  وهي تنافس اللاهوتtheology والقانون والطب في تحديد الغايات القصوى للبشرية ( وهي الغايات التي أمدنا بها النقد الكانطي الأول في شكل أسئلة ثلاثة :ما الذي يمكننا معرفته؟ ما الذي يمكننا فعله؟ وما الذي يمكن أن نأمل فيه؟) ، إلا أن الفلسفة كانت في نظره العلم الوحيد الذي يتعرض  لهذه الغايات استنادا إلى مبادئ عقلية خالصة (وليس  إلى وحي أو سلطة أو ممارسة تجريبية)، فعليها وحدها إذن تقع  مهمة رسم حدود صلاحية الغايات التي تقترحها "الكليات العليا"(كوضع الروح،وحقوق المواطنين وواجباتهم، و الوقاية الصحية للحياة) ، وذلك بخلق"منطقة"  ضمن كيانها تجعل من هذه الغايات موضوعا لمعالجة نقدية مقبولة كونيا، بحيث تحجم الفلسفة عن فرض  هيمنتها على المباحث الأخرى كما كان اللاهوت يفعل من قبل بجامعات القرون الوسطى.4 وسيكون على الفلسفة إذن أن ترسم -على نحو غير مباشر- الحدود النظرية والعملية لهذه العلوم( وهو ما يعتبر حاسما بالنسبة للاعتراف العمومي بها كعلوم). واليوم، علينا أن نعترف بأن "صراع الكليات" هذا لم يخمد، ولكنه اتخذ أشكالا أخرى، بحيث احتلت علوم مختلفة  موقع المعارضة اتجاه الفلسفة ، بدءا من الرياضيات والمنطق إلى اللسانيات، ومن التاريخ إلى العلوم الاقتصادية والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، ومن الفيزياء إلى البيولوجيا وعلم النفس. ويبدو أحيانا أن الفلسفة لا تتمكن من الحفاظ على مكانتها المتميزة إلا لكون براديغمات معرفية أخرى تدخل في مواجهة بعضها البعض من أجل تحديد معايير "العلم الأساسي". 

إن ما يجعل هذه الصراعات صعبة الحل وفي نفس الوقت حاسمة لاستجلاء الأهمية التي تكتسيها  مسألة الكوني والتي نحن بصدد تقديمها( وإعادة تحديد مضمونها) ، هو كون الحدود ليست أبدا بالبديهية (علما بأنها لم تكن كذلك أيضا بالنسبة للاهوت أو القانون أو الطب في بدايات العصر الحديث).  من غير الممكن أن نقرر بشكل جازم  ما إذا كانت  الفلسفة العلم الذي يفكر (بطريقة ترانسدنتالية) في المبادئ والدلالة ومشاكل التأسيس ، وفي الغائية العملية لبعض العلوم الأخرى ، أو  ما إذا كانت على العكس من ذلك شكلا من الأشكال الكونية للمعرفة ، يمد الفلسفة  بأسئلتها و ونماذج استدلالها  ، أو  يستخدمها كما تستخدم الأدوات لأجل الوضوح ألمفاهيمي الخاص. بعبارة أخرى من المستحيل أن نجزم بأن ماهية الفلسفة تتحدد من داخلها أو من خارج حقلها, وهو ما يسمح لنا في الحالتين معا بفهم علاقتها الخاصة(والمتميزة) بالتعبير عن الكونية بأساليب ومضامين مختلفة كل الاختلاف. إذا  ما عدنا إلى ماضي قريب ، قد نوافق بكل تأكيد  على أن هايدغر وسارتر و برتراند راسل أو فرويد أو فيبر أو وكواين كانوا كلهم فلاسفة ن ولكن ليس بالمعنى المباشر كما هو واضح ( وإلا فبمعنى مبسط ، لكونهم سعوا جميعا وراء" تجريدات" وقاموا بتصريفها). ليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن هذه الصراعات وهذه المواجهات بين مختلف الخطابات حول الخصوصية الكونية ن أو هذه "الصياغات التعبيرية  المختلفة للكوني"، والتي تمثلها النماذج العلمية المختلفة ،ستتوقف يوما عن التأثير في التصور الذي تكونه الفلسفة- كحكم وطرف- عن نفسها. في المقابل ، لا شيء يضمن لهذه المباحث  أن تتبوأ مكانها في  إطار الجامعة  أو أن يتخذ شكل  نسق  لعلوم أكاديمية منتظمة.

ورغبة في إعطاء  هذا النقاش شكلا متميزا وفي التأكيد على أهميته العملية، أريد أن أقارن  بين مختلف الاستراتيجيات التي تم تصورها لحل المفارقات التي يتضمنها التعبير عن  الكوني ( كيف نقول الكوني ونعبر عنه؟أين يتم هذا القول؟). لهذه الاستراتيجيات بكل تأكيد جذورها في تاريخ الفلسفة نفسها، ولكنها تمثل أيضا مواقف "نقدية " مستمرة . وسأحاول أن أقدم لمحة وجيزة بخصوص ثلاث من بينها أعتبرها ضرورية بمعنى ما، إنها ليست الوحيدة ولكنها تمنحنا توجهات مختلفة واضحة المعالم. أعتقد  في الواقع  أنه لا يكفي الفلسفة أن تتفحص كيف تأتى لها أن تطالب بوظيفة قول الكوني وأن تحظى مؤسسيا بالشرعية في القيام بذلك (ولو أن ذلك لم يخل يوما من صعاب)، كما لا يكفيها التأمل في العناصر العرضية التي تتدخل في هذا الوضع أو قلب هذه العناصر أو إلغاءها المحتمل. إن أكبر تحدي يواجه الفلسفة بهذا الصدد، يكمن في مجاز الشرعنة الذاتيةself-legitimizing   الذي تقوم بإقحامه  ، فالصعوبات  المفاهيمية التي يثيرها هذا  المجاز ، ولكن أيضا إنتاجيته و قدرته على إثارة إنجازات و تطورات غير مسبوقة، استدعي كل ذلك فحصا جيدا سيهيئ  الفلسفة  إلى مغامرات فكرية جديدة ، ويدفع بها منذ الآن إلى  التحول كي تستمر دائمة الحضور  بمختلف السياقات الإبستمولوجية والاجتماعية والثقافية.

أما الإستراتيجية الأولي فهي إستراتيجية اسببينوزية-فيتغنشتاينية . أكيد أن اسبينوزا  و فيتغنشتاين مفكران مختلفان جدا(وإن كنا نحاول" قراءتهما مجتمعين") ،ليس فقط بخصوص مساءل تقنية من قبيل تجانس الحقيقة مع بعض المضامين الافتراضية  المتميزة ، ولكن أيضا فيما يخص المنظور  العام المتعلق  خصوصا برفضهم للاعتبارات "المنهجية"و"الميتا- لغوية في الفلسفة ، وبفكرتهم المشتركة  حول استحالة وجود" مفاهيم مضخمة "super-concepts ). وبخصوص مسألة الكوني، أعتقد أنهما يتقاسمان مقاربة ثنائية النمط،   بالمعنى الذي يسمح لهما   بالتمييز بين " نزعة كونية نظرية" و"نزعة كونية عملية"  تكون  لغتاهما متنافرتين جذريا، بحيث تتكلم الأولى لغة التفسير والتمثيل(أو الوصف) بينما تتكلم الثانية لغة  المعايير والنتائج وأنواع الاستعمال. و من الأكيد أن مهمة الفلسفة تتجسد في العمل على خلق تواصل بين اللغتين. ولكن، بما أنه لا يوجد في هذه المقاربة ما يشبه وجهة نظر خارجية (مثالية أو ترانسدنتالية) تسمح بتقليص الاختلاف (أو-وهو نفس الشيء- ما قد يبدو كتوزيع "لمجالات" تكميلية،"كالطبيعة" أو" الحرية" على سبيل المثال لدى كانط)، فإن الفلسفة تتحول إلى فن لوصف أو ابتداع سبل مؤدية من "مكان" إلى آخر غير منفصل عنه في الحقيقة (أي أنه لا ينتمي إلى "عالم" مختلف)، ولكنه بالرغم من ذلك  متميز عنه نوعيا. بعبارة أخرى تصبح الفلسفة فنا لفهم الأسباب التي تجعلنا نسكن نفس العالم("المحايث") على طريقتين متناقضتين  وكونيتي النزعة  معا في نفس الوقت .

ما يمنح هذا التشابه -بين الرجلين – نكهة إضافية هو كونهما  قد  أجبرا بحكم تقلبات حياتهما الفلسفية إلى وضع كتابين مختلفين حاول كل منهما بأسلوبه ومقصده الخاصين أن يعرض من وجهة نظره (  عبر لغته الخاصة) احد الشكلين للكونية، بحيث لا يحيل شكل  -لنفس السبب-  إلى الشكل الأخر  إلا من خلال النمط  المحرج لحاجز داخلي أو لشرخ  أو نقطة انفلات لا يمكن وصف دلالته إلا على نحو سلبي. إن هذه الوضعية ليست  بالمريحة ’ خصوصا بالنسبة للفلاسفة الذين راموا النسقية. ولن نفاجأ إذ نجدهم يحاولون حل المشكل أو تذويبه من خلال إدخال وساطات (كترجمة  مشكلة في اللغة الأخرى :فعند اسبينوزا على ما يظهر’ نجد مشكلة الممارسة قد ترجمت مثاليا في لغة نظرية’ وعلى العكس من ذلك , نجد أن مشكلة النظرية قد ترجم لدى فيتغنشتاين إلى لغة الممارسة’ غير أن ذلك لا يمثل بكل حال من الأحوال إلا مجرد خطوة أولى) ، وبدل أن نناقش الوساطات(أي "الأنساق") أود أن أثير الانتباه إلى هذا التعارض المحرج  نفسه, والذي يشكل في نظري الجانب الأكثر أهمية.

لقد كتب اسبينوزا في سرية مؤلفه "الأخلاق" الذي هو بالأساس بناء لشكل من الحياة الفكرية المبنية على فهم العلاقات السببية بين الأشخاص الطبيعيين( بما فيهم البشر), ولكنه نشر( على نحو مجهول فعلا) رسالته اللاهوتية –السياسية Tractacus theologico-politicus، وهي مناقشة سياسية وتاريخية حول إمكانية تحرير المجتمع السياسي من شكل معين للإيمان الديني ، لأجل بناءه على أساس المساهمات الحرة لمختلف  الديانات في التعرف العملي على الخير المشترك أو المنفعة العامة. و نشر  فيتغنشتاين من جهته  رسالته المنطقية الفلسفية  Tractacus logico-philosophicus  وهي محاولة لتحديد "المنطق" أو "اللغة"(die sprache)  المشتركة بين كل أنواع الوصف ( وأكثرها دقة أنواع الوصف العلمي) المتعلقة ب"العالم " كمجموعة  "وقائع" (tatsachen) أوعلاقات موجودة فعلا بين الأشياء، ولكنه كتب أيضا( أو كان يهيئ ) "الأبحاث الفلسفية" إلى جانب ذلك ، حيث موضوع التفكير لم يعد الشكل المنطقي المتواجد على نحو موحد  ضمن علاقة  أوضاع الأشياء الطبيعية أو  صورتها أو وصفها اللساني ( فهي فكرة على قدر من التشابه المثير مع ما سمي بتوازي الأشياء والأفكار عند اسبينوزا) بل أصبح هذا الموضوع يعني التنوع اللانهائي لألعاب اللغة ، حيث تعمل تجمعات مشتركة عمومية (أي مجموعات بالمعنى الواسع ذات استمرارية أو مؤقتة، تنشأ على أساس تقاسم بعض الدلالات أو بعض التأويلات) على تلقين نفسها كيفية إعطاء صيغة للحياة  أو تحويل تجارب حياتية إلى كلمات .

عند اسبينوزا ، يسمى الكوني  ب"الإله أو للطبيعة "، وهو يفسره بواسطة السلسلة اللامحدودة للعلاقات السببية ( أو" المنتجة") بين الأشياء(بما فيها الأفكار) ،  وباستحالة  الاحتمال( كتاب الأخلاق، 1، ف: 28-29).، أما عند فيتغنشتاين فيسمى هذا الكوني "بالشكل العام لوظيفة الحقيقة"(الرسالة المنطقية الفلسفية، القضية السادسة وما يليها) ، فهو يقدمه ("ويعرضه على الأنظار") بوصفه النسق التام للعمليات التي تجعل حقيقة قضية أو علاقة تطابقها مع الواقع تابعة بقدر ما  من الاحتمال (أو من اليقين في أقصى تقدير ) لحقيقة قضايا أخرى. يسمى الكوني العملي لدى اسبينوزا ب"الدولة الحرة" أو "الجمهورية الحرة" ، ويتحدد كإمكانية تسمح  لمذاهب ومعتقدات غير متجانسة ( ولربما متنافرة) - متجذرة في طرائق مختلفة بتمثل  وضع البشر ضمن العالم ،  وبتعيين مقاصدهم  والمساهمة ذاتيا في تحقيق هدف مشترك ، أو تمد الذوات  بأسباب  فردية  تجعل منهم أشخاصا  نافعين بعضهم لبعض. أما عند فيتغنشتاين فيظهر هذا الكوني العملي  بطريقة  أكثر احتمالية من الطريقة التي تشتغل بها اللغة اليومية عمليا (والتي ليست إلا مجموع كل استعمالاتها) كشرط إمكان لإنجاز "تواضعات"  تسمح بتدبير مقنن لأشكال حياتية  مختلفة ومتناحرة .

نلاحظ على مستوى مفاهيمي أن هاتين الكونيتين تتبعان خطاطتين  مختلفتين ، تنبني الأولى منهما  على وحدة مثالية  لتجارب متعددة (ولو على شاكلة وحدة منفتحة لانهائية وفي توسع مستمر، كالتي يشير إليها  مفهوم "الطبيعة" عند اسبينوزا)، بينما تستند الثانية على التكافؤ العملي الذي يقره اتفاق  بين تعددية للقناعات أو المعتقدات ، تشهد في نفس الوقت بتعذر اختزالها إلى  تصور بسيط أو أحادي المعنى، وهذا التكافؤ نفسه لا يمكن تصوره إلا كمعطى عملي (أي كنتيجة عرضية- هشة أو قابلة للمراجعة –لأعمال مشتركة تسمح بإمكانها ، أو كأثر رجعي لا ينفي عنها واقعها ولكنه يحولها إلى سيرورة حركية قادرة على الصيانة  الذاتية).

و نلاحظ أخيرا أن المرور من نمط للكونية إلى نمط آخر لدى اسبينوزا كما لدى فيتغنشتاين يظل تطبعه المفارقة إذ لا يمكن في الحقيقة وصفه إلا كعرض سالب للواحد ضمن لغة الآخر.   وهذا يعني حالة ارتياب عميق لا يقل واقعية  ولربما لا يتعذر التعرف عليه غالبا لدى اسبينوزا وفيتغنشتاين ( ما دام هذا الأخير سيحول بشكل معلن  "وثوقيته" الأولى إلى "نسبوية" ظاهرة’ بينما يكون  اسبينوزا ، بالنسبة للذين  أطلعهم على أسرار مذهبه "المتكتم" قد استعمل في رسالته في اللاهوت والسياسة لغة لا تيسر فهمه من قبل الجمهور الواسع). لاغرابة أن تكون هذه النقطة مكمن بزوغ المشاكل الكبرى المتعلقة بتمثل الذات أو الفاعل .لقد قيل(و لربما بسخرية) أن وضع الذات هذا يشكل عنصرا صوفيا في "تراكتاكوس" فيتغنشتاين ، لكونها ، من وجهة نظر " المطابقة" للعالم المادي،  لا يمكنها الظهور إلا كلازمة لكلية لغة منطقية تستعصي على الصياغة اللفظية . إلا أن هذا العنصر الصوفي عنصر عملي أيضا، إذ يتطابق مع "فعل" إظهار الشكل المنطقي ، فهو إذن يتوفر من خلال تحليل "القواعد" و"الألعاب " في كتاب "الأبحاث الفلسفية" على عنصر معادل  لا علاقة له بما هو صوفي : إذ يندرج على العكس من ذلك تحت التجربة اليومية للتعلم ( بما أن  العمليات المنطقية  تشكل بدورها لعبا لغويا ، فهي تطالب بحفظها عن ظهر قلب، و تدخل في  مملكة العادة والتقليد، وهو ما لا يعني بالضرورة أن يكون  محتواها نفسه تواضعيا أو قابلا للتعديل)،. قد نقول أن المشكل يصبح لدى اسبينوزا في نهاية مؤلف" علم الأخلاق "  مشكلا يتعذر  تفاديه، وذلك عندما تنبثق شخصية الحكيم  - وقد تحررت من وهم حرية الاختيار بعد اجتيازها  لأنواع المعرفة الثلاثة – كذات مفكرة قادرة على ربط كل فرادة (بما فيها فرادة الفيلسوف نفسه كجسد و روح) بضرورة سببية. ولكن ، بأي عالم يعيش هذا الحكيم أو يوجد؟ وبما أن اسبينوزا لا يؤمن بوجود "عوالم أخرى"، فلا يمكن تحقق هذه الحياة   خارج عالمنا هذا، ولكن لا يمكن  أن يحدث ذلك  أيضا داخل العالم الاجتماعي حيث العلاقات بين الأفراد تتأسس على اللغة وعلى الخيال،إلا إذا افترضنا (كحل ملتوي تقترحه الرسالة في اللاهوت والسياسة) أن بوسع الحكيم أن يتمثل   علمه و حكمته بنتائجها  الأنثروبولوجية  في شكل "دين حقيقي"  أوفي شكل " إيمان كوني" حيث تعاد ترجمة  "الطبيعة" إلى "إله"(وهي عملية شبيهة بعملية استئصال  للمبادئ الاجتماعية والأخلاقية المتعلقة بالصيغ التاريخية للتوحيد). يتعلق الأمر هنا بفرضية أكثر مما يتعلق ببرهنة، وهي تقود في نظري إلى التأكيد على صعوبة تجاوز الغموض  الذي يكتنف مفهم الكوني.  ولكن ،أليس هذا الغموض هو ما يشكل أهمية هذه البناءات النظرية  وقوتها (والتي تتعدد نماذجها  في الفلسفة، فاسبينوزا  و فيتغنشتاين اللذين  تم عزلهما  هنا لتوضيح عرضنا ينحدران معا من تقليد رشدي مرتبط  بنظريات "الحقيقة المزدوجة")؟ بل  إن عنصر الشك لديهما  هام في هذا النوع من القضايا. إن هذه البناءات النظرية تدعونا للتخلي عن فكرة(ومثال) الكونية ، و تظهر لنا  على العكس من  ذلك   إمكانية  الدفاع عنها نظريا وعمليا. إنها  تزيح عنا  في نفس الوقت  وهم استخلاص "أشكال كونية للحياة"  انطلاقا من معرفة علمية بالعالم أو من أية نظرية أو مذهب كان ، وأن قواعد التكافؤ بين "الذاتيات "(وإذن التعايش والعمل المشترك وإنتاج "خير" مشترك ما، أو الإنهاء العملي للصراعات ) باستطاعتها أن تكون بديلا عن  الاتفاقات والمؤسسات. هذا يعني أن مؤسسات كونية أو على الأقل تلك التي تطمح أن تكون كذلك تشكل مشروعا سياسيا يقوم على أساس، وهو ما قد يشكل علاجا ناجعا ضد المعتقدات المنذرة بنهاية العالم.

أريد الآن ن أصف إستراتيجية مختلفة كليا  تهدف بدورها إلى التدليل على أن مفارقات الكونية تملك خاصية صميمية ، ولكنها تضع هذه المفارقات على مستوى آخر وتدفعنا في اتجاه خلاصات مغايرة. سأسميها بالإستراتيجية  الهيغلية- الماركسية،لأن واضعها هو هيغل ( خصوصا وحصرا في  فينومنولوجيا الروح ، ففي ما يخص هذه المسألة ،سوف  تتحدث أعماله اللاحقة لغة مختلفة كل الاختلاف) بوصفها "وعيا"( أو تمظهرات للوعي) أو "تعارضا" (أو اعترافا صراعيا) ، قبل أن تتم صياغتها من طرف ماركس بوصفها "أيديولوجيا " و"هيمنة إيديولوجية". كل من هذين القاموسين يسمح بتعميق  بعض دلالات  الإشكالية (والتي تنتمي أصلا إلى مجال" المثالية الألمانية"، بتقلباتها النظرية والسياسية المأساوية، والغنية مع ذلك بحمولة شاسعة تسمح بإلقاء الضوء على بعض المشاكل الأكثر عمقا في التقليد الجدلي بصفة عامة). وتوخيا للتبسيط، يمكن القول  أن الفكرة المتضمنة  هنا هي كالتالي :يستحيل وجود كونية ما في حقل الأفكار أو التمثلاث ( والتي تتضمن في هذه الحالة الأفعال والممارسات ، إذ لا وجود  لممارسة بشرية أو تاريخية في غياب التمثلات، ليس فقط بالنسبة "للآخرين" ، ولكن أيضا بالنسبة للذات نفسها) ،  إن لم تكن في شكل هيمنة على أفكار وتمثلات أخرى (والتي يتم إلغاءها أو حجرها أو الزج بها  في وضع ثانوي أو إقصائي لما  هو " خاص" حتى لا نقول لما هو "قبلي"tribal  ).تصبح الكونية والهيمنة  متعادلتين،  وعلى العكس من ذلك لا  ترقى ايديوليجية ما (أو نسق للتمثلات أو صورة ما للوعي)   إلى الكونية     إن لم تتحول  إلى أيديولوجيا مهيمنة ،   وعلى نحو أدق،  إن لم تشتغل سيرورة هيمنية و "كإيديولوجينا مهيمنة "(herrschend Ideologie) . يتعلق الأمر هنا بنظرية نقدية للغاية-أزاحت الكثيرين إلى الظل  ( و تمت معارضتها بعنف خصوصا من قبل فلاسفة و مفكرين  "وثوقيين" من دعاة الخطابات الشمولية  المطلقة سواء كانت دينية أو دنيوية أو أخلاقية أو علمية) . لقد بدت هذه النظرية صعبة التداول حتى بالنسبة لمبتكريها( خصوصا ماركس وتلامذته الذين كانوا يناضلون في يأس ضد فكرة -ولربما ضد بداهة -استحالة  تحول خطابهم إلى خطاب كوني كخطاب للتحرر الاجتماعي ، إلا  أن يقيم هذا الخطاب  بدوره شكلا من أشكال "الهيمنة"). فليس التأثير النقدي( والنقدي الذاتي) ما يهمني هنا بقدر ما تهمني البنية الفلسفية  للاستدلال  نفسه.

سأبتدئ بما يمكن تسميته ب"المفارقة الهيغلية" للكوني: أي الفكرة التي تحظى بتوضيح على امتداد "فينومنولوجيا الروح "والتي مفادها أنه ، نتيجة للتحديد الداخلي أو للتناقض الداخلي بالأحرى ، يستحيل  التعبير عن  الكوني دون تحويله مباشرة إلى خطاب خاص( أو تمثل خاص )  . على الكوني أن يقال( وأن يتم النطق به)  حتى وإن تم ذلك عبر حوار داخلي أو مستند إلى ذاته. إن الكوني خطاب بطبعه، أو لحظة في تطور الخطاب توجب قوله من قبل شخص ما . يعارض هيغل بقوة كما نعرف  فكرة  وجود أفكار أو تجارب تستعصي عن القول  أو عن التعبير ( وهو موضوع سخرية في  الفصل الأول من فينومنولوجيا الروح بوصفه يمثل أسطورة "ما لا يقال" « Unaussprechliche ») ، و لا يعني ذلكأن بالإمكان قول أي شيء بصفة مباشرة ، أو في نفس الخطاب من طرف شخص واحد.على العكس من ذلك، يوجد عائق صوري – ملازم للغة- يمنع التعبير عن الكونية دون إخضاعها لتحديدات الزمان والمكان( ودون أن نجعل منها تعبيرا عن حدود هذا الموضع أو ذاك المكان الخاصين)، ولكن بالأساس دون الزج بها في أفق وجهة نظر ملازمة للوضعية المعنية.  وستتضرع قراءة تاريخا نية لهذه الأطروحة بالعبارة اللاحقة لهيغل والتي تنص على أن " لا أحد يقفز فوق زمانه"( ولا  فوق محيطه دون شك:غير أنه بالنسبة لهيغل لا قيمة "للمحيطات" إلا بالقدر الذي تمثل فيه "مواقع " متتالية لتطور روح العالمWeltgeist) كقضية " حتمية " تعكس محدودية الفر دانية التاريخية. وتكمن أصالة هيغل في  عمله على ترسيخ الكونية في مستوى أونطولوجي أكثر عمقا،، واصفا إياها كنتيجة لبنية الوعي ، أي من خلال التفكير في الكونية كمقولة للتمثل الواعي بوصفه كذلك(ولنقل-في مرور-  في تعارض تام مع فيتغنشتاين و اسبينوزا) . إن "الوعي" - كما يصفه هيغل "فينومنولوجيا"بدءا من الإدراك ( والذي يمكن أن يعزى إلى شخص  أو إلى وعي منعزل) وانتهاءا إلى الأشكال  التاريخية والجماعية "للروح"( قد نتكلم اليوم "الثقافة" بأبعادها المؤسسية والسياسية  كمبدأ لهيكلة التجمعات القومية)-  ملكة للتفكير( مرتبطة على نحو مباشر بملكة اللغة لدى هيغل)5 ،ملكة  تنشئ كليات للمعنى وتضفي عليها طابع اليقين (gewissheit) والحقيقة (wahrheit)، و طابع الكونية باختصار. ولكن الوعي لا يستطيع ذلك إلا بصفة خصوصية، فهو يسمح بالخصوص لتعددية من الأفراد بأن يتقاسموا نفس الذاتية (أو يسمح لذوات فردية وجماعية ، و"للأنا" و"للنحن" بتغيير مواضعهم:" أنا هو بمثابة النحن ، ونحن هو بمثابة الأنا"6. ونتيجة ذلك  ما يستهدفه الوعي من خلال كل شكل من أشكاله ، ليس" العالم" كما هو  ، ولكن "عالمه هو" ،"عالم" أو رؤية  مشتركة للعالم يأتيها انسجامها انطلاقا من عزمها إضفاء مبدإ ما لليقين والحقيقة على كلية التجربة(وقد يكون هذا المبدأ ابستومولوجيا أوجما ليا أو دينيا أو قانونيا...) والذي لا تجوز صحته إلا" في ذاته". وتأتي الفكرة العامة المتعلقة  بإمكانية التكلم على نحو كوني  دون أن إلحاق طابع الخصوصية بالكوني الذي نحن بصدد النطق به ( أي تحويله إلى نقيضه المنطقي) من كون كل خطاب أو كل نطق للكوني  يخضع دوما لقانون التمثل الواعي، وبعبارة أخرى ، لا وجود "لكوني" إلا بالنسبة لوعي ما  بالمعنى الواسع. لا ووجود إذن  لوعي دون حدوده الباطنية ، أي دون شروط إمكانه.ليس من العسير أن نجد هنا تعميما للفكرة الكانطية حول الوعي الترنسندنتالي كشكل قبلي لتنظيم التجربة , وأيضا نقدا قاسيا لادعائها الترفع عن التجربة ذاتها. وأيا كان الأمر، فلا يمكن هنا  أن نختزل الاستدلال  إلى مجرد "نسبوية ". إن الوعي وكذا اللغة التي تتكفل به(على سبيل المثال: اللغة الأخلاقية للمسؤولية والواجب، أو اللغة العلمية للسببية، أو اللغة القانونية للحرية والمساواة) ينظمان التجربة من الداخل ( من داخل "تاريخها" الخاص) يتوجب عليهما إذن أن يقوما بتذويب الضدين ، ا الخاص والكوني ( أو بالمزج بينها) . لا توجد وسيلة أخرى  للانفلات من هذا الإكراه غير تفهم الانتقال الضروري من شكل للوعي إلى شكل آخر، أي تفهم مبدأ التاريخية المحايث لتحديد هذه الأشكال ( والذي لا يشكل صيغة جديدة للوعي  أو تمثلا للكوني ، ولكه يشكل تفكيرا ذاتيا في الذات  أو تعيينا اسميا لهذا الانتقال).

ليس من العسير أيضا أن نفهم كيف تمكن وصف هذا الوعي وعلاقته المفارقة باللغة من أن يولد المفهوم الماركسي للايدولوجيا.أكيد أن "أشكال الوعي" الهيغلية تغطي عددا  واسعا من التجارب  والدلالات ( وهو كم  لا يتضمن فقط الخطابات الاجتماعية ، أي تلك التي تستطيع أن ترتبط ببعض الأشكال المجتمعية والسياسية  للهيمنة ولن أيضا بعض أنواع  رؤى العالم  :"القوانين" الميكانيكية للطبيعة،  " الكشوفات الدينية"، الخ،)، إلا أن التأويل الماركسي للبعد القومي  للتمثلات ( أي وظيفتهم كوساطة بين "الأنا" و "النحن"، بين الذاتيات الفردية والذاتيات الجماعية) كتعبير عن صراعات طبقات تاريخية ،  يشد انتباهنا غلى  إلى الطبيعية الصراعية أساسا والتي تشكل الخاصية العامة للكونية في تحديدها الهيغلي. في  الواقع ، إن ما يريد هيغل توضيحه إبرازه ، ليس فقط أن قول الكوني يرغم المتكلم أو المتكلمين على إعطاءه شكلا خاصا ، ولكن  يعني تأييد كونية معينة ضد كونية أخرى، وحرمان هذه الأخيرة  كونيتها الخاصة، وإنكار قدرتها على أن تكون بدورها  كونية بالفعل .

إن الكوني لايكتفي بتمثيل وحدة مفارقة للأضداد المنطقية ،فهو لا يوجد إلا في شكل كونيات متصارعة(والتي يمكن فهمها  كتعبير عن مصالح متضاربة ، يرجعها هيغل إلى تصور شمولي للحياة وبالروح، ويرجعها ماركس إلى مفهوم جد متميز للإنتاج الاجتماعي)، كونيات  تتضارب من أجل فرض هيمنتها.

ولكن ما الذي نعنيه "بفرض الهيمنة الخاصة"؟ يعني ذلك أن خطابا يضفي طابع النسبية على خطاب آخر ، وأنه يضبط المقاييس و يحدد المعايير التي يتلقى من خلالها هذا الأخير قيمته و وظيفته المحددتين، فيقبل على أساس ذلك أو يقصى ، عبر نوع من العلاقة التراتبية التي تبدو في بعض الحالات قابلة للقلب، كما هو الشأن في  الجدل الشهير للسيد والعبد  حيث تنتهي رؤية العبد للعالم ، المستندة إلى  القيمة الكونية للعمل، إلى قلب رؤية السيد  القائمة على أساس القيمة الكونية للتضحية،  محولة السلب إلى إيجاب ، وعاملة بذلك على خلق شروط إمكان  تطور الثقافة . فرض الهيمنة يعني بالخصوص أن خطاب الهيمنة خطاب يعكس في قرارته التناقض مع "آخره"، ويجعل من هذا التناقض الحافز الباطني لتطوره الذاتي( هنا أيضا تواجهنا فكرة ليست بالمفتاح التاريخي ولكنها تحيل إلى البنية الأونطولوجية للوعي) . وتمنحنا بعض المقاطع الشهيرة من فينومينولوجيا هيغل تجسيدا مدهشا لهذا المبدإ، لعل أكثرها شيوعا( وليس ذلك صدفة) هو جدل "الثقافة"Bildungنفسها، والذي يصف فيه هيغل  الصراع بين "كونيتين" كبيرتين: كونية الإيمان( بالمعنى اللاهوتي) وكونية العقل العلماني( بالصيغة التي منحها إياه عصر التنوير) , والذي يعرضه هيغل كانشطار للفهم الخالصeinsicht : فلكي يتبدى العقل لنفسه كعقل كوني، يقوم بتقديم الإيمان على أنه "خرافة" : مع الاحتفاظ لنفسه بتصوري اليقين والحقيقة اللذين أنتجهما آخره(وذلك من خلال  معارضة خصوصية المعتقدات الخرافية بكونية المعتقدات العقلانية، وهو ما يعني معارضة  لخاصية اللانقدية للإيمان بخاصية النقد الذاتي للعقل). وهناك  أمثلة أخرى لا تقل أهمية ، كجدل "القانونين الإثنيين"( أي صراع المطلقين كمطلق الأخلاقية الإنسانية ومطلق المساواة المدنية) في تاريخ المدينة- الدولة اليونانية ، كما نجد تأويلهما في مأساة أنتيغون  أو في جدل المسيحية كعقيدة لموت الإله، حيث نصادف مبدأ التفكير بواسطة الصور المنحدر من "الديانات الطبيعية"(تعدد الآلهة وهو  يعرض الإلهي من خلال أشكال مشخصة) ،إذ لا يتحقق هذا المبدأ  في  فكرة التجسيد إلا ليتم إلغاؤه أو إعلاؤه على  المستوى الروحي. يمكن أن نعثر على أمثلة مشابهة في " البيان الشيوعي" حيث الحديث عن "المذاهب الاجتماعية والشيوعية" كقلب خيالي  للملكية الخاصة من داخل الإيديولوجيا (الليبرالية) المهيمنة ، وهي فكرة  سوف يستعيدها كتاب "الرأسمال" في صيغة "إلغاء للملكية الرأسمالية ضمن حدود الرأسمالية" أي  كنوع من الاشتراكية داخل الرأسمالية .7  

من جديد ، نؤكد على أن هذه البناءات  الفلسفية تنطوي على نبرة نقدية حادة، وأنا لا أقرأها كشيء سالب بالمرة ( ولو دفعنا بها إلى أقصى حد ،لقادنا هذا التأويل إلى فكرة "جدل سالب" حيث  لن يمثل الكوني إلا" تعويذة سحرية" وتجريدا أو" نفيا للتناقض " يحول دوننا ودون  التفكير استناد إلى حالات متفردة عينية) ، ولكنني أقرأها  بالأحرى كبناءات مفاهيمية للكوني، تكشف عن توتراته وصراعاته الداخلية ، وذلك ما يدفعني إلى إضافة اعتبار أخير: فبلغة هيغلية ماركسية ( أو بألفاظ لماركس الذي يمدد اللحظة الفينومينولوجية هيغل ويعمل على زحزحتها في نفس الوقت) ، لا تشكل الخاصية الصراعية  للكوني شائبة أو فشلا للخطابات الكونية ، ولكنها مقياس  يمكننا من التحقق من تلك التي تستحق فعلا هذا الاسم ، من خلال استعراض قدرتها على استحضار "آخرها"(منافسا أو "عدوا" كما استحضرت الأنوار الخرافة بوصفها "الآخر العدو" في وصف هيغل) ، بوصفه العنصر السلبي الذي تحتاجه في  تطورها الخاص وفي بلوغها وعيها بذاتها. بهذا المعنى يمكن القول أنه لا يوجد فحسب صراع حيث توجد كونية ( أي التأكيد الذاتي للكونية) ، ولكن الصراع هو نفسه  دوما صراع غير متوازي وغير متكافئ بين عنصر مهيمن رادع وعنصر  خاضع مقموع.

بالإمكان إلى حدود هذه اللحظة العثور على تأويلات  مختلفة ممكنة لا تقود بالضرورة إلى نفس الخلاصات العملية. وحرصا على  تبسيط الأمور ، سأصوغ هذه التأويلات في ألفاظ أقرب إلى اللغة  الحربية  ( وهو ما يجد تبريره في كون أغلب الأمثلة التي نجدها لدى كل من هيغل وماركس تحيل إلى صراعات تاريخية أو متخللة لفترات  تاريخية مختلفة  بين رِؤى متصارعة للعالم) : فإذا حدث وأن هيمن خطاب على آخر ( وهو ما نسميه "وعيا" للتأكيد على قدرته  على تشكيل الذوات، أو نسميه "إيديولوجيا" للتأكيد على وظيفته الاجتماعية) ، فقد يدل ذلك على  أن الخطاب الخاضع  مرغم على أن يرتد إلى "منطق " الخطاب المهيمن وإلى مقولاته وخطابته كي يعبر عن اختلافه وعن مقاومته ، أي انه مرغم على أن يعيش تجربة الاستلاب ، بحيث لا تعمل كل معارضة أو مقاومة إلا على تقوية الخطاب المهيمن ، وهو ما يشكل طريقة فعالة لفهم  التقابل بين "الهيمنة " و " الكونية"، ليس لأن الكوني غير قابل"للتحديد" ، أو لأنه لا يملك خاصية فعلية لتحديده الخارجي، ولكن لكون هذه الخاصية يتعذر بلوغها على الخطاب الخاضع للهيمنة (على غرار استحالة بلوغ الشيء في ذاته بالنسبة للوعي الكانطي) وكأنه لا توجد غيرية فعلية. ورغم ذلك، يمكننا قلب هذا التأويل واعتبار أن ما "يضفي طابع الكونية" على رؤية ما للعالم، هو بالضبط ضرورة احتضان ا لمقاومات واحتواء المعارضات والردود. وسنكون قد تقدمنا خطوة إلى   الأمام إذا ما أوحينا بأن  "العنصر السلبي المتستر  داخل الأيديولوجية المهيمنة، والعاكس لحضور الآخر الذي لا يقبل الاختزال (عنصره "الساخر" كما يقول هيغل بالنسبة لأنتيغون وللمدينة –الدولة  أو  ل"ابن أخ رامو" Le Neveu de Rameau بالنسبة للأخلاق البرجوازية )،  وهو العنصر الذي يتطلب خطابا يملك القدرة الكونية على تشكيل تجربتنا للعالم، بعيدا عن الوعي المحدود لمخترعيه أو الناطقين به.

وأخيرا نصل إلى الفرضية القائلة بأن ما يصنع "أيديولوجيا مهيمنة " هو تعميم قيم وآراء المهيمن[بفتح الميم] عليهم وليس آراء المهيمنين. ليس من السهل القبول بهذه الخلاصة، ولكنها فكرة تلاحق جدل السيد والعبد، والتي بدونها تفقد النقاشات الماركسية (وما بعد-الماركسية) المتعلقة بالطابع الكوني "للأيديولوجيا البرجوازية" كل معنى، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالغموض الدائم لمفهوم"حقوق الإنسان". لقد تم التأكيد طويلا على أن كونية "حقوق الإنسان" لا تأتي هذه الحقوق من مجرد الإعلان عنها، ولكن أيضا من كون كل المقاومات والاعتراضات على النظام المهيمن(ولنسميه إن أردنا بالرأسمالية أو الليبرالية) لا تجد شرعيتها إلا في الحدود التي تقدم نفسها كمطالبة وكتوسيع "لحقوق للإنسان" كحقوق مجردة  . يمكننا ونحن نتسلح بقدر من الصواب أن نؤكد بإصرار  على أن الأيديولوجيا المهيمنة تستغيث "بحقوق الإنسان" ( أو بالنزعة الإنسانية" والتي يتم الاتفاق على اعتبارها تجسيدا للشكل النموذجي للكونية العلمانية في المجال الأخلاقي والقانوني والسياسي)، لأنها اللغة العامة التي تتم بواسطتها التمردات وحروب والانعتاق  الهادفة إلى  الحرية والمساواة متحدية نظام الامتيازات القائم، مما يعني أن مفتاح فهم الكونية كهيمنة يكمن في هذا المجاز التي يكاد يكون موقعه جاك لاكان :"يتلقى الخاضعون لغتهم/وعيهم من المخضعين على نحو مقلوب". إنها بالفعل طريقة هامة في استرجاع المفارقة المرتبطة  بنوعية الكلام الكوني ، وأن "المكان" الذي يتحدد فيه الكوني كخطاب ، والذي يضفي عليه طابع الخصوصية  ليس قط "مكانه" هو  على نحو مباشر ، إذ لا يمكنه إلا أن يكون مكان آخره الداخلي، المكان الذي يمكن لهذا الأخير أن "يتحقق " فيه .8

وأيا كانت القيمة الحاسمة لهاتين الإستراتيجيتين الطموحتين للنطق بالكوني ، سواء تلك التي تقوم على خطاطة الحقيقة المزدوجة ( أحادية المعنى في مقابل التكافؤ العملي)،أوتلك التي تفترض  العلاقة الصراعية بين خطاب السيادة وآخره الداخلي ، فإنهما معا –كما يبدو لي –لا تستنفذان المسشك القائم. فبالنظر إلى النقاشات الحالية والعديدة حول اختلاف الثقافات، وحول الإمكانيات المتاحة للاعتراف بهذا الاختلاف، وبالنظر أيضا إلى العراقيل التي يطرحها هذا الاختلاف أمام "تأسيس كوني للكونية"، يتضح الآن أنه من الضروري أن نتمثل المفارقات المحيطة ببناء الكوني، ليس فقط باعتباره موضوعا للاختلاف والصراع ولكن أيضا باعتباره موضوعا للترجمة.

إن النقاش( ولربما علينا أن نقول إن النقاش الجديد)حول طبيعة الترجمة وآثارها نقاش مستمر منذ عقود  إلى اليوم  ، خصوصا في حقل" الدراسات الثقافية   Cultural studies  ، وليس هناك من يشك بالبعد الفلسفي لهذا النقاش ( وهو ما يجعل توجهات الفلسفة ووضعها موضع رهان)9. إن النقاشات حول الكونية والتجمعات القومية والتعدد الثقافي تتضمن تصورات حول الترجمة بمختلف مرجعياتها الفلسفية ( المنطقية والبنيوية والهرمنوطيقية) وهو ما يبرز أن النظريات والمفاهيم تتخذ مباشرة معنى سياسيا.

أود أن أصف بعجالة كيف تتدخل هنا استراتيجيه أخرى  "لقول الكوني" ( وهي استراتيجيه منشطرة حقا لكون تطورها الذاتي يضع نواياها موضع استفهام) كما أود أيضا أن أستعرض   السؤال الميتافيزيقي التقليدي الذي تسمح لنا هذه الإستراتيجية بإعادة النظر فيه ، وأعني سؤال الفردية والتشخيص ،  وهو ما سأعمل عليه باختصار شديد.

إن النقاشات حول الترجمة تبدأ غالبا بالإحالة إلى المفارقة التي تحولت إلى نوع من القناعة المشتركة  والتي مفادها أن " الترجمة مستحيلة"( أو أنها مهمة مستحيلة) في الوقت الذي تمارس فيه الترجمة يوميا على نطاق واسع، مما يعني أن الترجمة إذن واقع فعلي10. يعجز هذا المنطلق على فرض نفسه في الحدود التي يبدو فيها التصور"المثالي" للترجمة - والذي يتخذ منه هذا المنطلق أساسا له (كمعيار أو كوسيلة أو كعائق)- متخللا لنشاط الترجمة نفسه. فما يوصف بالمستحيل هو الترجمة الكاملة a perfect translationوالتي يقوم بواسطتها متحدثون وقراء منتمون إلى عوالم لسانية مختلفة (يستخدمون لغات مختلفة لفهم الغير وفهم أنفسهم أو لقراءة نصوص)  مع ذلك بتقديم نفس الدلالات ( بل ونفس القيم الشعرية والصور ونفس التأثرات) لكلمات أو جمل مختلفة .  إذا كان غالبية المنظرين متفقين على أن تطابقا من هذا الصنف(ونعني تطابقا بين اللغات)  لا يمكن بلوغه عمليا إلا في حالات محدودة جدا واصطناعية للغاية (حيث يحيل تصور اللغة إلى شفرة متخصصة لا أكثر)  ، فبالإمكان  التماس  هذا التطابق  كنموذج مثالي.

تلك بوضوح هي حالة "اللاتحديد الجذري للترجمة" في المذهب الشهير لكواينQuine   ، والذي قام بتفصيلها في بحثه المعنون ب"المعنى والترجمة"11 Meaning and Translation  . فتجربة الفكر الأولية ( وهي مشهد يفترض أنه سابق عن كل ترجمة من  خلال أول لقاء بين مبشر ديني  أو باحث إثنوغرافي وأحد الأهالي ، يجهل أثناءه  الواحد لغة الآخر في غياب كل وساطة أو ترجمان)، هذه التجربة تبرز أن العمليات الفعلية للترجمة عندما تحدث ( و لا شك أنها تحدث) ، لا تسمح بالتأكد من أن الكلمات تحيل إلى نفس الأشياء أو أن العبارات تنقل نفس الدلالة. إن اعتقادا من هذا النوع لا يصدر إلا عن عمليات  مشتركة للتعلم ، وعبر" صعود دلالي " إلى مستوى أرقى، بفعل أن اللغات المختلفة يتم استعمالها كتأويلات متنوعة أو كنماذج غير متوازية لنظام مسلمات واحد.إن اللغات بالنسبة لكواين شبيهة بالنظريات التي يستعين بها المتكلمون لتفسير تجاربهم المادية ، فلا يمكن التحقق من صحتها إلا محليا أو جزئيا، وهي تبعا لذلك، لا تملك  إلا حقيقة نسبية . إن هذا التحليل يهدف بوضوح إلى نقض كل مفهوم موجب حول كونية دلالية حتى وإن انحصرت هذه الكونية في مجال منطقي-علمي ، كما أنه  يرتبط بنقد عام للترادف والدلالة. إن الكونية –من هذا المنظور-هي الجنة الضائعة للفكر البشري.12

هناك بحث وحيد كان  له نفس التأثير في النقاش الفلسفي المعاصر حول الترجمة ، إنه مقالة والتر بنيامين :" مهمة المترجم"13.  ينحدر هذا النص من تقليد  مغاير(غير التقليد  المنطقي ، ولكنه التقليد  الفيلولوجي والهرمينوطيقي المشبع بالنظريات الرومانسية لشلا يغل وهومبولد حول اللغة)، فهو يقترح رؤية للترجمة تكاد تعارض ما عايناه  ( الترجمة التي لا تنحصر مهمتها في تقديم مقابل للتعبير عن التجارب اليومية ، ولكنها تنحصر في نقل الصيغ  الشعرية والقيم الجمالية من لغة إلى أخرى)14 .ومع ذلك، يبدو بنيامين وكأنه يشاطر كواين عددا من المسلمات ، فهو يعتقد أن نقل المعلومات – وهو أمر مستحيل في النهاية بالنسبة  لكواين - مقبول في الحدود التي لا يركز فيها هذا النقل إلا على "الأوضاع  الفعلية" ، ولكنه  غير ضروري بالنسبة لفن الترجمة. فما يهدف إليه هذا الفن(الأدبي ) حقيقة هو تمديد الأثر الجمالي الناتج عن إبداع لساني  من لغة إلى أخرى ، وهو ما يصفه بنيامين  بتنمية "بذرة" أو مخزون للانتقال التحولي المودع دوما في الأعمال الفنية (العظيمة).

إن فاعلية الكتابة الشعرية لا ترتبط فحسب بقدرتها على تحويل اللغة الأصلية –والتي تقوم بتوضيحها وإتمام مواردها التعبيرية، ولكنها ترتبط أيضا بقدرتها على خلق لغات أخرى من خلال قبولها الإرادي بأن تصبح موضوعا للنقل والترجمة. إن القصد الواضح هنا للترجمة هو بلوغ "لغة خالصة"ein reine sprache حيث يتم ترجيح التكامل أو- ما هو أفضل- ترجيح التناغم والتلاؤم على مستوى قوة التعبير وليس ترجيح التوافق بين الشفرات.إن فكرة اللغة الخالصة لا تعني استبدال لغة بأخرى وإنما تعني تجمعا متلاحما، وبعبارة أخرى، إنها تعني الاكتمال المشترك للغات،والقائم على تنوعها الذي لا يقبل اختزالا . وهذا الاكتمال (الذي ينيطه بنيامين بالوظيفة "التبشيرية" لإغلاق التاريخ، رغم أنها تولد عبر ممارسات تاريخية خالصة) يبقى مع ذلك بعيدا عن التحقيق،  فهو يظل يمارس تأثيره " كفكرة منظمة " داخل كل جهد للترجمة15.

من الصعب أن نتصور شيئين أكثر تباعدا كتباعد المفهوم المعرفي الخالص والمفهوم الشعري الصرف للترجمة. ورغم ذلك، هناك فكرة مشتركة تسند استدلالات كل من بنيامين و كواين: إنها فكرة اللغة التي  تهي  في الأصل ( أو عليها أن تكون ) كلية مغلقة، بالمعنى الذي تقوم فيه بوضع علاقة داخلية بين عناصرها، وبالمعنى الذي ترتبط فيه بمجموعة من المتكلمين( والمستمعين والكتاب والقراء) الذين "ينتمون" إلى هذه اللغة أو الذين تنتمي إليهم هذه اللغة، سواء تم تكون هذه المجموعة  اختباريا عبر تجارب تعلم مشترك (على النمط السلوكي Behaviorist) لتكشف بذلك عن خاصية تواضعية، بافتراض وجودها على نحو قبلي- كشخص جماعي "حي"  تقوده  ديناميته  الخاصة في التحول، والذي قد يقوم بتعيين آفاق المعنى للذوات الفردية ( كما هو الشأن في التقليد الهومبولدي). أكيد أن لسانيي القرنين التاسع عشر والعشرين قد قبلوا بهذه هذه المسلمة المشتركة (بما فيهم البنيويون)، و جعلوا منها منطلقا لإحصاءاتهم وتصانيفهم وتحاليلهم المنهجية للغات: فلكل لغة لسانها ، ولكل لسان اسمه (انجليزي، عربي، صيني، أو عبري) ، وكذلك قواعده النحوية الخاصة وألفاظه و تعابيره وتاريخه، الخ..، وهذا اللسان يشكل" كلية معطاة" يتولد عنها مشكل الترجمة.

لا يتعلق الأمر بإنكار فعالية هذا التصور بصفته بناءا ترانسندنتاليا ( أو شبه ترانسندنتاليا) لتجربتنا (ففكرة "الكلية اللسانية" تشكل الرابط الرمزي داخل تجمع قومي  ما، وتؤدي إلى إمكانية تطبيق مقاييس للتفاهم أو لسوء التفاهم المتبادل، كما أنها تسمح برسم حدود لسانية  borderlines) باعتبارها  تشكل أيضا مجموعة معايير وممارسات مؤسسية (لا تنحصر وظيفتها في الإقصاء فقط، فهي ما سيجعل من الترجمة  ومن "الترجمة الفورية" ممارسة ضرورية وهامة داخل مجتمعاتنا) . ببساطة، سيكون من السخافة  أن نؤكد أن هذه الفكرة قد فقدت كل مصداقية في عالمنا المعولم" االمابعد-حداثي". ولكن من المستحيل أيضا أن لا نأخذ في الحسبان كم الوقائع المرتبطة باللغة وبالترجمة وبالثقافات التي تلقي الأضواء على الطبيعة التاريخية للزوج اللساني-القومي، أو التي تناقض استحضاره  المهيمن16. ولا أظن  أيضا أن هذه الوقائع تنزع عن الإشكاليات الفلسفية الواسعة لكل من كواين و بنيامين  كل أهمية، إذ العكس هو الصحيح. غير أن هذه الوقائع نفسها تسمح لنا بأن نرسم  حدودا لها ، وأن نقلب الاستعمال الذي نخص به "الأفكار الموجهة " كتلك التي تتعلق ب"الترجمة الجذرية" أو فكرة "اللغة الخالصة" بحيث لن نجعل منها   تجسيدا لمثل عليا  يشرئب إليها ، في يأس، كل تعبير عن الكوني في صيغة ترجمة، بقدر ما تحيل إلى العوائق التي يتوجب  عليها  مصارعتها .

للتعبير عن ذلك في لغة مقتضبة ، يمكن القول بأن الطابع التاريخي للعلاقة بين اللغة ككلية أو كنظام وبين القومية  كأفق للتفاهم المتبادل( أو التفاهم البيني للقوميات  أو الاعتراف في ما بينها  عبر الحوار) يقيم الدليل على أن اللغة هي   دوما واقع سياسي مهما بلغت المقولة  التي تندرج تحتها هذه العلاقة من تجريد وعمومية.  لقد ارتبطت هذه العلاقة لعدة قرون (ولو أنها لم تخل من استثناءات ومقاومات) بالتمثل  المهيمن وبتأسيس اللغات كلغات قومية ( أو شبه قومية ،"إثنية" أو" حضارية") وكذا التجمعات البشرية كشعوب( حاضرة وماضية ومستقبلية) ، سواء تحت سيادة دولة أو انعدام هذه الدولة.  وتنحو هذه العلاقة- التي يجب فهمها كضرورة مطلقة  لاتاريخية ومتخللة للتاريخ في نفس الوقت- إلى قلب الصلة الفعلية بين الترجمة والطابع المعياري للغات القومية، مع اختلاق  واقع مشوش بحكم أن عديدا من اللغات التي أصبحت "كيانات مستقلة" ليست في الواقع إلا نتاجا لممارسات(مؤسسية) للترجمة (والتي تتضمن الترجمات العلمية والأدبية ، وأيضا التربوية والقانونية والتجارية،الخ..) وليس العكس. وهذه العلاقة تتجه أيضا نحو خلق التوهم بأن  عملية الترجمة أو الجهد الترجمي  ينطلقان  من لغة متكاملة البناء ( حتى وإن تعلق الأمر باستكمالها أو تحويلها). سيكون علينا أن نقبل  بأنه  منذ عهد بعيد  لم تعد توجد أوضاع- هذا إن  تأكد أنها وجدت يوما ما- يعثر فيها المتكلمون  على  لسان مجهول كلية ، وأن فكرة بنيامين حول "انسجام" بين اللغات يدفع بها إلى  عدم استشعار الغرابة بعضها إزاء بعض،  هي بمعنى ما واقع قائم. غير  أن الأمر لا يتعلق بانسجام ولكن بتراكم للصراعات أو بحرب كل اللغات ضد كل اللغات . إننا نعيش في عالم لترجمات دائمة الحضور متنافسة فيما بينها ، منها "الخيّر"  ومنها "الشرير"، منها  "المسموح به" و"غير المسموح "، وإذن نعيش في عالم  تلحق فيه بعض اللغات بغيرها  في كل لحظة   ( على نحو ما سماه باختين "بالمغايرة اللغوية")، عالم لا تتوقف فيه اختراقات الحدود اللسانية القائمة، والتي تقود إلى اندماج المتكلمين من جهة وإلى تشويه الألسن من جهة أخرى. لنتساءل في تأمل: ما هي القواعد اللسانية؟ وما هي المجتمعات التي تغطيها اليوم اللغة الأنجليزية ؟(مع الاندهاش الكبير لعدد من الذين يتكلمون هذه اللغة ويكتبونها). فما يميز عالم اليوم ليس المساواة والاعتراف التام بالآخر ولو أنه ( كما سبق لي أن شرحت ذلك في مقام آخر)لا يمكن لهذا العالم أن يتحرك من دون شكل من أشكال  المعاملة الصراعية  بالمثل17. إن الإحساس باللااكتمال (ولربما انزواء ما يعتبر "غير قابل للترجمة" أو غير أهل لها") وشطط القرار الأحادي الجانب ( بعض اللغات تترجم أخرى أو تخونها ، وتفرض نفسها "كلغات للترجمة "ولكنها تنمو أيضا بفضل إدماج زمرة من الترجمات  بينما تزاح لغات أخرى إلى الظل ، وقد تترجم أو لا تترجم حسب علاقات السلطة والمعرفة) ، إن هذا اللااكتمال وهذا الشطط هما ما يحدد الخاصية التاريخية لشبكة العلاقات الخاصة بالترجمات والتي تتداخل من خلالها اللغات في شكل تكتل سياسي.

أن نتكلم الكوني كترجمة، لا يعني فقط الدفاع عن الترجمة ( أو عن مزيد من الترجمة) ،إنه الترجمة من جديد، على نحو مختلف وفي أماكن أخرى لصالح مجموعات أخرى وأفراد آخرين  يصبح بإمكانهم  على هذا النحو شق طريقهم نحو  نشاط  الترجمة. وإذا  كانت الممارسات الترجمية قد أنتجت (ولا تزال) تجمعات سياسية، فإن التفكير في التحولات الممكنة لهذه الممارسات هو لا ريب مهمة  "ميتا- سياسية"، إنها مهمة فلسفية ( بالمعنى الذي نعود من خلاله إلى المبادئ الأولى وإلى أسس السياسة  التي تسمح بفهم بدائلها وسلطها و إمكاناتها و إكراهاتها). ليسمح لي بأن أضيف إلى هذه المسألة ثلاث إشارات  نهائية تسحق في الواقع تفصيلات أوسع.

أولا، لقد تشكل في السنوات الأخيرة اتجاه لتوسيع مقولة الترجمة  وخلق نقلة في استعمالها، خصوصا لدى المؤلفين الذين انضووا تحت حركة  "ما بعد الكولونيالية" ( نستحضر هنا أسماء :إدوار سعيد و هوني باهباBahba و :كاياتري سبيفاك Gayatri Spivak، ومن وجهة نظر أكثر ارتباطا بالفلسفة جوديث بيتلر Butler) والذين انتقلوا من فكرة ترجمة  اللغات أو ترجمة نصوص داخل هذه اللغة أو تلك)إلى فكرة ترجمة "الثقافات"18. وبمعنى ما ، يتعلق الأمر فقط بمرحلة  في تاريخ ترجمات فكرة الترجمة، والتي حبستها  الفيلولوجيا وعلم الدلالة للحداثة الغربية في إعداد قواميس وأصناف من النحو وإقامة خزانات موازية، وبالقرب منا، في دبلجة الأشرطة الصوتية للأفلام، والتي تعني من جديد الانتشار المعمم للمعلومات وللإبداعات بين التجمعات الدلالية المختلفة. إنه الاعتراف أيضا بكون أشكال اللامساواة اللسانية التي تمنع تواصل اللغات ومشاطرتها متجذرة في التاريخ الجماعي للمتكلمين الذين يلجون "الفضاء العمومي" بتقاليدهم وأحاسيسهم ومواقعهم المحددة  أوضاعهم: فلم يعد ينظر إليهم كذوات متكلمة ولكن أيضا كذوات متكلمة[بفتح اللام] وموضوع كتابة. وكما هو معروف ، لا يقود هذا (التصور) بالضرورة  إلى التنويه بالطابع الرافض للثقافات التقليدية التي تطالب باستعادة أهليتها السياسية ، فالمؤلفون المعنيون بذلك مدفوعون إلى الجمع (سياسيا وجماليا) بين نشاط الترجمة المعممة وتجارب المقاومة وضرورة التمازج الثقافي وانشطار الهوية والتشتت النصي وأنواع القلب الفعال للأسماء. ولا معنى لكل ذلك في نظري إلا إذا تصورنا "الثقافات" نفسها كأنساق منفتحة للجمل والنصوص والخطابات والحوارات، وقابلة للتطور، بدل تصورها  "كرؤى للعالم " في شكل كيانات مجزأة   منعزلة ومنفصلة  . وإذا كانت مهمة المترجمين المتكاثرين ( والذين يفوق عددهم دوما عدد المترجمين المرخص لهم ، ولكنهم يظلون عدديا دون ما تستدعيه الضرورة) تعتبر تناقضا حيا مرتبطا بظهور وساطات هشة تستطيع "الانتماء" إلى مختلف  الثقافات في آن واحد دون أن تنتمي كلية إلى ثقافة بعينها، إنهم "غرباء الداخل"على نحو ما19.

ثانيا،إن المقولات البرغماتية التي تبدو أكثر ملائمة لوصف تجارب الترجمة المعممة ليست  مجرد مقولات لأفعال اللغة و للقدرة الكلامية والتداول والقصدية أو مقولات للنفوذ والسياق...الخ، ولكنها بالأساس مقولات حول عدم التفاهم والخلاف والتي تقلب استحالة الترجمة إلى شرط وجودها المفارق . يستخدم زيغمونت بومان  Zygmunt  Bauman على سبيل المثال فكرة "اللاتفاهم" إذ يعتبرها تجربة أولية تتحقق داخل التجمعات الدلالية وفي ما بينها، وهو يحدد على هذا النحو الكونية كنتاج لنشاط ترجمي(منغرس في الحياة اليومية) من خلاله يتعلم حاملو الاختلافات كيف يستمرون وكيف يؤدون مهمتهم المتعلقة باختيار ردود صائبة وملائمة ومقبولة ضد "ضربات" الآخرين20. وعلى نحو أكثر مأساوية، يصف جون فرانسوا ليوتار استنادا إلى خلفية فيتغنشتاينية  "أنساقا للعبارات" "غير متلائمة" و "غير قابلة للقياس"  لكون "تظلم ما "- تمت صياغته ودعمه ببراهين  داخل أحد هذه الأنساق- لا يمكن أن نحسم  أمره أو تقييمه إلا داخل نسق آخر، وبصفة أعم لان هذه الأنساق ليست خاضعة لقانون سابق عن وجودها. لا يعني ذلك استحالة وجود قاعدة كونية على الإطلاق، بل يعني أن وجودها لن يتأتى إلا إذا تم ابتكارها بعد الحدث على نحو متميز :   فأن  نتحدث عن  "استحالة الترجمة " أو إقامة تعارضات بين عبارات متنافرة في نفس الخطاب ، وأن نعمل على" ربطها" بسلسلة بدل مواراتها ,وأن نعود من داخل اللغة المرجعية إلى النسخة الأصلية التي تمانع  الترجمة وتعرية نزاعها :تلك هي "الضربة" التي ترجئ استحالة الترجمة  أو تغير حدودها المعطاة"21. هنا أيضا نصادف عنصرا للكونية "المقبلة" (قد يقول دريدا) على المستوى العملي .وفي كلا الحالتين، يتدخل العنف والتقابل اللذين يعدو تحقيق  توازنهما بعيد المنال.

وأخيرا، يبدو لي أن بالإمكان الإشارة إلى نوع المشاكل الميتافيزيقية التي يستدعيها مشروع تعميم الترجمة وإعطاءها طابعا جذريا. إنها المشاكل المرتبطة ببناء الأفراد.  عندما تنحل  التقابلات المؤسسية للتطبيع (حتى لا نقول المحولة إلى كائنات سحرية)بين الألسن والقوميات ، وتتحول إلى تقابلات صراعية بحيث يتشكل كل قطب من عبارات لا تتطابق تلقائيا ، تقابلات تتوقف حركتها الدائرية في الزمان على التقاليد والمؤسسات ( وهو ما يعني إسكات بعض الأصوات وقمع بعض المقاومات)، فإننا لا نرى الأفراد يتخلصون من علاقاتهم فيما بينهم  لينتصبوا عراة(من كل ثقافة) وكأنهم  "على الفطرة" . نلاحظ هنا  ظهور شكل جديد  "للاتحديد الجذري" ، شكل لا يحيل  إلى موضوعات  بقدر ما يحيل  إلى ذوات ( أو إلى تحديدهم المرجعي الذاتي). هذا الأمر يعزز تجربتنا المعاصرة لحدود الفهم ، حيث تنقلب التراتبيات الذاتية العادية (والأسطورية في الواقع) للإدماج والإقصاء . فمثلا، يسهل علي أن أتناقش مع زميل أمريكي بلغة هي  مزيج من الانجليزية الدولية والفرنسية على أن أتناقش مع شاب من "رعاع" الضواحي (كما ينعتهم وزيرنا في الداخلية أو كما يلقبون أنفسهم أحيانا بدافع الاستفزاز)والذين افهم كلماتهم على نحو ناقص وكذا نماذجهم النحوية ونطقهم رغم انتمائهم إلى عينة من الفرنسيين"غير النموذجين"  ولربما المختلطين بالعرب(ولقد كانت صعوباتي أقل حجما مع الطبقة العاملة للجيل السابق ، لأن العشرين سنة التي قضيتها بالحزب الشيوعي قد وضعت بين يدي  الشفرة والممارسة).ما هي "اللغات" المتجانسة؟ وما هي اللغات المختلفة ( ولغات من؟)  ما هي الوقائع العملية التي تمنحها هذه التسميات؟أين تتم عملية الترجمة أكثر؟وهل يتم ذلك داخل الحدود اللغات أم فيما بينها؟ إن ما يصدق على الطبقة - نسبة إلى  اللغة والمجموعة القومية - والتي يبدو أن التاريخ الحديث العهد يدفعنا في اتجاه قلب علاقة القوة بينهما- يصدق أيضا علىظواهر أخرى تخص تفكك الهويات الاجتماعية التي تخترق الاختلافات الأنثروبولوجية والحدود الثقافية (خصوصا حسب ما سوف تكون عليه أنظمتنا التربوية "الديمقراطية"(. وفي كل الأحوال،إن الأزمة  الأونطولوجية لعالم الترجمات المعممة لا يعني انبثاق فرد خالص، ولا نتيجة إلغاءه النهائي باسم القوميات التقليدية التي تؤكد سيطرتها الكونية على الاتصالات وتطرح نفسها كسلطة مطلقة فيما يخص الترجمات (رغم أننا لسنا في مأمن من هذا التطور). إن الأمر يتعلق بفردية"إشكالية "  ، أو بتعليق لعملية التفريد ولبناء الفرد "كقدرة على التطور" وعلى التنقل داخل كون متعدد الوجهات خاضع للتيارات المتناقضة والمتصاعدة  للتطويع النموذجي ، وللمطالبة بالفروق للتمثل بالتقليد ولمقاومة التطبيع المعياري. على أي أساس نبني فرادة الشخص ؟ وكيف ندعم  إمكانية السماح له بأن يتخلص من الشروط الجماعية للحياة؟ هنا يكمن المشكل المشترك بين كل الاستراتيجيات التي حاولت صياغة لغة على النمط الكوني.

إنني لا أوهم نفسي بتجانس تام لخطاطتي هذه  في التفكير،ألاحظ بحق أن هناك عدة طرق لتنظيم مختلف الاستراتيجيات التي قمت بتقديمها أعلاه : صوريا، من خلال إرجاعها إلى مختلف "النماذج النحوية "(كالفصل أو التضمين أو التعاقب)، وتاريخيا : بإرجاعها إلى مراحل من ثقافتنا الفلسفية الخاصة ("ماقبل-حداثية"أو كلاسيكية أو حديثة أو "مابعد-الحديثة" إن شئتم) ، والطريقتان معا ليستا بالمتنافرتين. إن ما يمنعني من الذهاب إلى حد أبعد في هذه التوجهات ، ليس فقط عدم تيقني من قدرتها على إقامة إحصاء تام (والواقع أنها مشتقة من بعض جوانب اشتغالي النظري الخاص)، ولكن أيضا كوني أصبحت أتبين  منذ الآن لماذا لا تستقل الواحدة عن الأخرى استقلالا تاما ، إن على المستوى "المفهومي" أم على المستوى "السياسي" .غير أني موقن  بأن هذه الإستراتيجيات لن تقبل  بالإذعان  لقبضة المفهوم الواحد حول "الكوني" أو للغة الوحيدة  "كلغة للكوني" . بعبارة أخرى إنها تقترح علينا اختيارات فكرية ستعمل لا ريب بحيوية على تقسيم الفلاسفة ، وإنني أتقدم بها كأدوات افتراضية لطرح السؤال المتعلق بالمستقبل المجهول للفلسفة ، من داخل الفلسفة نفسها.

 

ترجمه عن الفرنسية الأستاذ مصطفى لعريصة

 

 

1هذه الدراسة نسخة مراجعة ومعدلة لمقالة نشرت سابقا بالعدد الخاص بعيد ميلاد Topoi  "المجلة الدولية للفلسفة ،فعدد 25ن سنة 2006 ، وقد كان موضوع العدد هو: "ما العمل فلسفيا؟". اشكر مدير تحرير المجلة على دعوتي للمشاركة في هذا العدد.
2 أن نتساءل ماذا كان هناك "فلاسفة" خارج الثقافة الغربية (و التي تتضمن بالمناسبة مجموع التقليد العربي الفارسي) ليس أقل أهمية  من أن نتساءل هل هناك أشكال" للتوحيد" خارج الجنيالوجيا اليهودية-المسيحية-الإسلامية (فالسؤالان  لا يعدمان علاقة بينهما) ، فالمقولة التي تحدد   البحث هي نفسها التي تشكل موضوع البحث. انظر بهذا الصدد الكتاب الهام ل Kenta Ohji  et Mikhail Xifaras : Eprouver l’universel, essai de géophilosophie, Paris, Kimé, 1999.

3 في بحث سابق بعنوان « Ambiguous Universality »( والذي يشكل الفصل الثامن من :Politics and the other Scene, Londres, Verso, 2002) ، أميز تحليليا بين ثلاثة أنواع من الكونية: بوصفها 3واقعا" و "خيالا" و "رمزا".
4علم واحد كان عليه فيما بعد  أن يقارب هذا الوضع الرئيس هو "المادية الجدلية" التي تم تحديدها وإحاطتها بالتقديس في المجتمعات الاشتراكية منذ 1930 إلى الثمانينات من القرن العشين. وقد بقي هذا العلم غير منتج إذ لم يرق أبدا إلى نموذجه الوسيطي ولو أنه حرك بعض الحنين داخل الكنيسة الكاثوليكية.
5منذ الفصل الأول من الفينومينولوجيا("اليقين الحسي") منح هيغل "الوعي" قدرة لسانية هي شرط وصفه  الانعكاسي لذاته، وهو تطابق عمل ماركس على  استخلاص بعض مقدماته المادية.
6« Ich, das Wir, und Wir , das Ich ist »( Phénoménologie de l’esprit, ch.IV, introduction, trad ; J-P Lefebvre ; Aubier, 1991, p. 149)                        
7انظر كارل ماركس’ الرأسمال، الكتاب الثالث، لفصل 27،"دور الاقتراض في الإنتاج الرأسمالي"
8يدفعنا هذا الأمر إلى استحضار الصيغة الجدلية لفرو يد في (دروس جديدة، 1932 :"أين الهو، على الأنا أن يحدث")
9عن التصورات المتعاقبة حول الترجمة في التاريخ الغربي وحول " مشاكل الترجمة"التي تطرحها هذه التصورات ، انظر على الخصوص المدخل المطول" فعل الترجمة، الترجمة" في القاموس الأوربي للفلسفات تحت إشراف  (Barbara Cassin, Paris, Seuil /le Robert, 2004)
10 تلك هي نقطة انطلاق بول ريكور في واحد من أبحاثه المتأخرة  (حول موضوع شغله طيلة حياته)  Sur la traduction, Paris, Bayard, 2004 .  
11 تم إدراجه كفصل ثاني (« Translation and Meaning ») من كتابه:Word ang Object(1960) trad fr . Le mot et la chose, Flammarion 1977.
12من بين الشروح النافذة حول كواين  L’Anthropologie logique de Quine, g apprentissage de l’obvie, 1992 لساندرا لوجيي التي أنا مدين  لها بهذا الصدد.

13 انظر الترجمة الفرنسية لأعمال والتر بنيامين: Œuvres I, Gallimard, Folio , Essais, 2000
14 تم نشر هذا البحث لأول مرة سنة 1923 كمقدمة لترجمته ل:"لوحات باريسية" لبودلير.
15 إن فكرة بنيامين حول "تجمع اللغات كنتاج  لامحدود للممارسات الترجمية والذي ل تشكل تلاؤم اللغات من خلاله إرثا من الماضي ولكن حدثا مستقبليا" لا يتوقف عن المجيء" ، هذه الفكرة شبيهة إلى حد مدهش بمفهوم دريدا حول ال،ex- appropriation  . و الغريب  هو أن دريدا- في بحثه:  Tours de Babel , 1985, ألذي يعيد ذكره في Psyché, Invention de l’autre,1987 )- قد انتقد بشدة تصور بنيامين" للغة خالصة" ولعله  أخطأ الاعتبارات النهائية لبنيامين المتعلقة بترجمة الكتاب المقدس ترجمة حرفية (verbum pro verbo)  ولعله ظن أنها تهدف إلى توضيح نفس التصور. بينما أعتقد أنها تقترح نقيض- أطروحة  ساخرة.
16جزء كبير من هذه الاعتبارات صادر عن  تصورات تمت صياغتها أساسا في اللسانيات التداولية وفي سوسيولوجيا اللسانيات، وهي موضوع  توافق  واسع, وقد قام باحث  لساني فرنسيJean Jacques Lecercle صاحب كتاب:Interpretation as Pragmatics, 1999 باقتراح  عرض تركيبي واضح حول هذه النقاشات في Une Philosophie marxiste du langage, 2004.
17Cf. « Europe as Borderland », The Alexander von Humboldt Lecture in Human Geography, Université de Nimègue,10 novembre 2004. يعاد ذكره مجددا في Europe Constitution Frontière, Édition du Passant, Bordeaux, 2005.
18Cf. Judith Butler, « Restagingthe Universal.Hegemony and the limits of formalism » ? DANS j ;Butler ? E.Laclau, S.ZIZEK, ContegencyHegemony Universalty, conteporary Dialogues on the Left, Verso, 2000, PP 34-37
19إنه النجاح الباهر لكلود ليفي شتراوس الذي بين في "ميتولوجيات" كيف أن مجموع الأساطير الهندية للقارة الأمريكية (تلك التي تم تدوينها على الأقل) يمكنها أن توضع في علاقة "ترجمة متبادلة"ما دامت كل أسطورة من بينها بوصفها حكيا، تنحدر مباشرة أو غير مباشرة من أية أسطورة أخرى عبر تطبيق بعض القواعد الدلالية,وهذه الفكرة( التي ليست بالغريبة عن فكرة اللغة الخالص لبنيامين)يمكن أن تتسع "لأنساق أخرى من العبارات".ولكنها تغفل مع ذلك البعد الصراعي للتحولات, انظر: Patrice Maniglier, «  L’humanisme interminable de Claude Lévi- Stauss », Les Temps Modernes,n .609, Guin-Aout 2000,pp 216-241.
20Z.Bauman, in Search of Politics, Stanford ,1999,p.202.
21Cf.Jean François Lyotard, Le Différend, Ed.Minuit, 1983

notes

1هذه الدراسة نسخة مراجعة ومعدلة لمقالة نشرت سابقا بالعدد الخاص بعيد ميلاد Topoi  "المجلة الدولية للفلسفة ،فعدد 25ن سنة 2006 ، وقد كان موضوع العدد هو: "ما العمل فلسفيا؟". اشكر مدير تحرير المجلة على دعوتي للمشاركة في هذا العدد.
2 أن نتساءل ماذا كان هناك "فلاسفة" خارج الثقافة الغربية (و التي تتضمن بالمناسبة مجموع التقليد العربي الفارسي) ليس أقل أهمية  من أن نتساءل هل هناك أشكال" للتوحيد" خارج الجنيالوجيا اليهودية-المسيحية-الإسلامية (فالسؤالان  لا يعدمان علاقة بينهما) ، فالمقولة التي تحدد   البحث هي نفسها التي تشكل موضوع البحث. انظر بهذا الصدد الكتاب الهام ل Kenta Ohji  et Mikhail Xifaras : Eprouver l’universel, essai de géophilosophie, Paris, Kimé, 1999.

3 في بحث سابق بعنوان « Ambiguous Universality »( والذي يشكل الفصل الثامن من :Politics and the other Scene, Londres, Verso, 2002) ، أميز تحليليا بين ثلاثة أنواع من الكونية: بوصفها 3واقعا" و "خيالا" و "رمزا".
4علم واحد كان عليه فيما بعد  أن يقارب هذا الوضع الرئيس هو "المادية الجدلية" التي تم تحديدها وإحاطتها بالتقديس في المجتمعات الاشتراكية منذ 1930 إلى الثمانينات من القرن العشين. وقد بقي هذا العلم غير منتج إذ لم يرق أبدا إلى نموذجه الوسيطي ولو أنه حرك بعض الحنين داخل الكنيسة الكاثوليكية.
5منذ الفصل الأول من الفينومينولوجيا("اليقين الحسي") منح هيغل "الوعي" قدرة لسانية هي شرط وصفه  الانعكاسي لذاته، وهو تطابق عمل ماركس على  استخلاص بعض مقدماته المادية.
6« Ich, das Wir, und Wir , das Ich ist »( Phénoménologie de l’esprit, ch.IV, introduction, trad ; J-P Lefebvre ; Aubier, 1991, p. 149)                        
7انظر كارل ماركس’ الرأسمال، الكتاب الثالث، لفصل 27،"دور الاقتراض في الإنتاج الرأسمالي"
8يدفعنا هذا الأمر إلى استحضار الصيغة الجدلية لفرو يد في (دروس جديدة، 1932 :"أين الهو، على الأنا أن يحدث")
9عن التصورات المتعاقبة حول الترجمة في التاريخ الغربي وحول " مشاكل الترجمة"التي تطرحها هذه التصورات ، انظر على الخصوص المدخل المطول" فعل الترجمة، الترجمة" في القاموس الأوربي للفلسفات تحت إشراف  (Barbara Cassin, Paris, Seuil /le Robert, 2004)
10 تلك هي نقطة انطلاق بول ريكور في واحد من أبحاثه المتأخرة  (حول موضوع شغله طيلة حياته)  Sur la traduction, Paris, Bayard, 2004 .  
11 تم إدراجه كفصل ثاني (« Translation and Meaning ») من كتابه:Word ang Object(1960) trad fr . Le mot et la chose, Flammarion 1977.
12من بين الشروح النافذة حول كواين  L’Anthropologie logique de Quine, g apprentissage de l’obvie, 1992 لساندرا لوجيي التي أنا مدين  لها بهذا الصدد.

13 انظر الترجمة الفرنسية لأعمال والتر بنيامين: Œuvres I, Gallimard, Folio , Essais, 2000
14 تم نشر هذا البحث لأول مرة سنة 1923 كمقدمة لترجمته ل:"لوحات باريسية" لبودلير.
15 إن فكرة بنيامين حول "تجمع اللغات كنتاج  لامحدود للممارسات الترجمية والذي ل تشكل تلاؤم اللغات من خلاله إرثا من الماضي ولكن حدثا مستقبليا" لا يتوقف عن المجيء" ، هذه الفكرة شبيهة إلى حد مدهش بمفهوم دريدا حول ال،ex- appropriation  . و الغريب  هو أن دريدا- في بحثه:  Tours de Babel , 1985, ألذي يعيد ذكره في Psyché, Invention de l’autre,1987 )- قد انتقد بشدة تصور بنيامين" للغة خالصة" ولعله  أخطأ الاعتبارات النهائية لبنيامين المتعلقة بترجمة الكتاب المقدس ترجمة حرفية (verbum pro verbo)  ولعله ظن أنها تهدف إلى توضيح نفس التصور. بينما أعتقد أنها تقترح نقيض- أطروحة  ساخرة.
16جزء كبير من هذه الاعتبارات صادر عن  تصورات تمت صياغتها أساسا في اللسانيات التداولية وفي سوسيولوجيا اللسانيات، وهي موضوع  توافق  واسع, وقد قام باحث  لساني فرنسيJean Jacques Lecercle صاحب كتاب:Interpretation as Pragmatics, 1999 باقتراح  عرض تركيبي واضح حول هذه النقاشات في Une Philosophie marxiste du langage, 2004.
17Cf. « Europe as Borderland », The Alexander von Humboldt Lecture in Human Geography, Université de Nimègue,10 novembre 2004. يعاد ذكره مجددا في Europe Constitution Frontière, Édition du Passant, Bordeaux, 2005.
18Cf. Judith Butler, « Restagingthe Universal.Hegemony and the limits of formalism » ? DANS j ;Butler ? E.Laclau, S.ZIZEK, ContegencyHegemony Universalty, conteporary Dialogues on the Left, Verso, 2000, PP 34-37
19إنه النجاح الباهر لكلود ليفي شتراوس الذي بين في "ميتولوجيات" كيف أن مجموع الأساطير الهندية للقارة الأمريكية (تلك التي تم تدوينها على الأقل) يمكنها أن توضع في علاقة "ترجمة متبادلة"ما دامت كل أسطورة من بينها بوصفها حكيا، تنحدر مباشرة أو غير مباشرة من أية أسطورة أخرى عبر تطبيق بعض القواعد الدلالية,وهذه الفكرة( التي ليست بالغريبة عن فكرة اللغة الخالص لبنيامين)يمكن أن تتسع "لأنساق أخرى من العبارات".ولكنها تغفل مع ذلك البعد الصراعي للتحولات, انظر: Patrice Maniglier, «  L’humanisme interminable de Claude Lévi- Stauss », Les Temps Modernes,n .609, Guin-Aout 2000,pp 216-241.
20Z.Bauman, in Search of Politics, Stanford ,1999,p.202.
21Cf.Jean François Lyotard, Le Différend, Ed.Minuit, 1983