تأملات تاريخية في مرحلة ثورية

Kmar BENDANA

المترجم : KCHIR Khaled


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

من بين التجارب المحفزة للمؤرخ هو أن يجد نفسه في قلب الأحداث النابضة، مع أنه ليس من المتأكد أن وقعها أعظم على المؤرخين منه على أي مواطن. وهي شبيهة بتجربة الصحفي، لكن مع فارق الإمهال،لأن هذا الأخير مطالب بالإفصاح عنها بصورة آنية، مما قد يجره إلى التأويلات المتسرعة أو المنحازة. إلا أن الوعي الجماعي بأننا نجتاز حاضرا مُفْعَمًا بالتاريخ بشكل غير معهود يتجاوز عقولنا، يفرض اللجوء إلى أدوات المؤرخين، التي تساهم في تعديل الوزن العاطفي الاستثنائي الكامن في التجربة. إن التكوين المهني للمؤرخ بعلاته وعوائده المكتسبة تعين على تصنيف الأسئلة النابعة من الأحداث كما تسمح باستنباط بعض العِبَر من هذه التجربة الوجودية وبلورة قراءة أوَّلية للواقع المعيش، في انتظار حصول المسافة الزمنية الضرورية للقيام بتحاليل أكثر عمقا وللتأريخ للحاضر.

         العبرة من الحاضر

         كمؤرخة، أوَّل العبر التي استقيتها من الأحداث الجارية بالبلاد أن أوضاع الحاضر تصنع حالات نموذجية. إن إعراضي المفرط عن الشواهد جعلني أرفض إلى حدِّ الآن الاستشهاد بقولٍ فصلٍ معروفٍ لبينيديتو كروشي، حيث أكَّد أن "التاريخ هو دوما معاصر". هذه الجملة اكتسبت معناها في هذه المرحلة المكهربة، حيث بلغت الوقائع واضطراب الأخبار والشائعات درجة، جعلت اللجوء إلى الأمثلة التاريخية بهدف المقارنة الآنية للأحداث بلسما مُسَكِّنا. فما نعيشه لأول مرة يوميا يجد في بعض الأحيان تفسيرًا له ضمن ما تعلَّمناه في الكتب. فقد تذكَّرت ما تنصُّ عليه كتب التاريخ من "مؤاخاة مع الجيش" حين شاهدت إحدى لقطات الفيديو التي تتناقلها شاشات الحواسيب بسرعة فائقة، خاصة وأن حالة الطوارئ المعلنة منذ 9 جانفي أجبرت التونسيين على ملازمة بيوتهم. هذا الشريط المُصَوَّر من أحد السطوح لمدّة تسع دقائق يسجل الدخول الحذر لدبابات الجيش عبر الشارع الرئيسي لمدينة صفاقس. وكان التقدم المتردّد لسائقي الدبابات تشجعه مجموعة من الشبان انتصبوا فوق دبابة بهدف خرق الحاجز البوليسي. ودون التكهن بمآل الأحداث، قرأت هذا "الخبر" المنشور على "فايس بوك"، بوصفه إعلانا عن التحام ممكن بين الجنود والسكان؛ وبوصفه مثالا عن ضغط مشترك بين الشارع والقوة العسكرية القادرين على إخضاع السلطة البوليسية. هذا الحدس النسبي الذي انتابني في أتُّون أيام جانفي، تأكد بعد بضعة أيام بفرار بن علي، حين بدأ التعامل مع الجنود يظهر على رؤوس الملإ، بوصفهم أصدقاء وحُماة ومنقذين، أمام استفزازات المواطنين بالسلاح وما تحدثه من فوضى. ففي الوقت الذي يسود فيه الحذر داخل المدن والقرى التونسية من الشرطة بالزي الرسمي أو بالزّي المدني لاعتبارها قوّة غير شعبيّة، تُوَشَّى الدّبّابات بالزّهور و يتمّ تقبيل الجنود ويُحَيَّى مرورهم بمزامير السّيّارات. ففي الأحياء غير الآمنة، حيث انتظم الرّجال شيبا وشبابا ومن كلّ الأصناف المهنيّة لتأمين الحراسة، تتوالى عبارات الشـّكر والامتنان للجنود في مستوى حواجز المراقبة بالتـّحيات الحارّة والابتسامات والزّغاريد وتقديم الحلويّات. وقد اضطرّ بعض الضّباط لمقاطعة مناقشات مطوّلة أو لرفض بعض الهدايا المحرجة أو لتحديد عدد الصّور التـّذكاريّة والمدّة الــّتي يستغرقها تصويرها مع الجنود. إنّ عرابين الاعتراف بالجميل والتعاطف التي حظي بها جنود كانوا في الخفاء، جعلتهم يشعرون بالفخر، إلا أنها أثارت حفيظة رجال الأمن وغَيْرَتَهُم، لأن المواطن العادي ضاق بهم ذرعا بسبب تواجدهم في كل مكان وعنفهم والفساد الذي عمَّ مؤسستَهم. فعلى خلفية الخوف من نظام بن علي البوليسي، يتلاءم خروج الجيش إلى الشارع مع موجة التآخي، بسبب انعدام الأمن وهي موجة دعَّمتها الصور، كمؤشر على التزام الجيش الوطني.

         إنّ النظرة الحية للأشياء تبيّن الوظيفة المزدوجة للجيش حتى وإن كان حضوره فاترا. فبورقيبة حرص على أن يبقى الجيش في الثكنات، وقد تأكد ذلك بأكثر قوة مع بن علي. فإثر مغادرته الجيش، أصبح بن علي يراقب المؤسسة العسكرية عن كثب. فهذا الجسم الذي مُحِيَ من الفضاء العام حافظ على صورة "البراءة" التي تفسر ما يحظى به من ثقة، مما جعله في نظر الشعب مقبولا، ليلعب دورا حساسا للغاية، ألا وهو حماية التونسيين والدفاع عنهم، خلال الأيام الأولى من الفوضى والفراغ السياسي. فمُهِمَّة اليقظة العسكرية المتواصلة إلى الآن في هذه المرحلة الانتقالية ورغم اختفاء بعض علامات التواجد البارزة، وجدت استحسانا أكبر من استحسان ما قامت به الإدارة. فهي تمثل أيضا سلكا لا يقل تنظيما وغموضا، وقد أمّن الحدّ الأدنى من الخدمات. ولئن لم يقدم لنا التاريخ أمثلة عن المؤاخاة مع الموظفين، فسوف نذكر أن أجور الوظيفة العمومية دفعت كعادتها في حدود 22 جانفي ، أي بالضبط بعد أسبوع من إخلاء قصر قرطاج. فجنود الخفاء في الإدارة والجيش وكذلك آلاف المجهولين العاملين على الشبكة العنكبوتية الذين نقلوا المعلومات، ينتظرون أن يقع التعرُّف عليهم من خلف حركات الجماهير الغاضبة والشبان المتظاهرين والنساء المناضلات والنقابيين الذين واكبوا الحركة، بالإضافة إلى المتنافسين السياسيين الذين أخذوا المشعل بعد سقوط النظام. فالقادة البارزون في مقدمة الساحة يستندون إلى الآلاف ممن هم أقل فعلا وظهورا؛ إلا أنهم في حاجة مُلِحَّة لحرية تتخذ عدة أشكال حسبما تبثها المدرسة والإذاعة والتلفزات الفضائية والسياحة وثقافة الانترنت. وقد وجدت هذه الوسائل الوقت لتفتح المجتمع على ثقافات حمّالة لأنماط سياسية مدروسة من قبل المؤرخين ورجال القانون والمفكرين. وقد بث هذا التثقيف معارف وصورا وأفكارا زرعت رغبات في الديمقراطية. وخلقت هذه التربية أحلاما بالحرية بقيت مكبوتة زمن الدكتاتورية، لكنها قبعت في الأذهان وتبيَّن انسجامها مع موجة الاحتجاجات.

         خلف الاندفاع الشعبي وصياغة المطالب ارتقى أفراد التزموا الصمت وبدون انتماء سياسي مهيكل إلى مَثَل أدنى من الحقوق السياسية. هذا الحب العذري الممنوع في الممارسة والمستساغ في أذهان الناس، أذكته التجاوزات اللاّدستورية ووقعت الاستهانة به جراء المس بالملكية وجراء الامتيازات المفرطة للنظام والاستحواذ على الثروات. إن الصامتين الراغبين في حياة عامة أكثر تمدّنا بوصفهم أنصارًا مُتَسَتِّرين لأخلاق سياسية دنيا، مثَّلوا قاعدة ملائمة وأرضية خصبة لنجاح حركة متواصلة انطلقت من تالة والقصرين لتشمل وسائل إعلام العالم كله، مرورا بمجموعات من المناضلين ومبحرين مشتتين على الانترنت. وقد انتظم بعضهم حول تسجيل الوقائع ونشرها عالميّا، بفضل إتقانهم لتقنيات الاتصال الحديثة. هكذا حصل اتفاق عفوي منبث في كل الفئات الاجتماعية وتوق مدني مكبوت وإجماع افتراضي مهيكل في إطار شبكة إعلام حول انتفاضات محظورة من قِبل وسائل الإعلام التونسية، ممّا ساهم في خلق دوامة عظيمة، جعلت السيناريو التونسي فريدا من نوعه. إن المآل السريع والمباغت لانتفاضة متواصلة لمدة شهر، هو محصّلة حركات تضامن ناجع على الصعيد المحلي وبنية تكنولوجية وعاطفية صلبة ومتأصلة في البلاد. هذا وقد أدت سرعة المآل بدورها إلى الإعجاب إزاء تخطيط ثوري غير معهود. هكذا شاهد العالم بأسره انعتاق شعب نضج في صلبه شعورٌ عارمٌ بظلمٍ عمَّقَته اللامساواة الاجتماعية وتنامي الممارسات "المافيوزية" للنظام؛ في الوقت الذي كان ينبثق فيه طعمُ حرية خفيّ بالنسبة لكل فرد، وتكبُرُ شيئا فشيئا الحاجة الملحة للحرية. هذا الانصهار بين مناضلين نشيطين ومجتمع لامبالي لعب دورا خفيا لكنه متأكد في التسلسل الذي قلب حكومة احتكرت حقوق كل فرد وثرواته وحرياته إلى حد لا يطاق. أما التسلسل الأفقي الذي صدم من حيث نسقه ونجاعته صحافيين ودبلوماسيين ومشاهدين وكوكب الانترنت فقد فاجأ في نفس الوقت التونسيين، الذين اعتُبروا أبطالا إيجابيين وفاعلين مُقِرِّين العزم على دفع سيرورة ديمقراطية غير منتظرة.

         هذه الانتفاضة العارمة بدون زعيم رمزي ولا نخبة قيادية إنما حصلت بسبب تضافر عدة عوامل وفي مقدمتها سوء المعالجة السياسية لا مبالية بتبلور أفق انتظارات مدنية وتضافر رغبات فردية لنيل حريات مرغوب فيها، تبعا لتوفرها في مجالات أخرى وانفجار مفاجئ للكبت بمختلف أنواعه وشعور متبادل بالظلم والغضب. فهل كانت ثورة؟

         محرّك العاطفة

         إن كلمة ثورة المحاطة بهالة الفخامة توحي بالبحث عن نماذج عبر التاريخ. راجعت مثل غيري الأمثلة الكلاسيكية وعدت إلى الثورات المشهورة في التاريخ العالمي وخاصة منها الثورة الفرنسية سنة 1789 والروسية سنة 1917 والصينية سنة 1949... فقد مثلت خزَّانات من المصطلحات والشعارات والمرادفات على أرض الواقع. إن اقتباس الكلمة يتم عبر تعريبها مع إضافة نعت لها فتصبح ثورة شعبية. وقد فرضت هذه الصيغة نفسها بسرعة في القاموس السياسي والإعلامي بمعنى مزدوج: إذ تعني فاصلا زمنيا للتعبير على ما بعد 14 جانفي وتعني أيضا مرجعا إيديولوجيا شبه أسطوري. وقد ازدهرت عدة نعوت أخرى بالفرنسية في الصحافة والمواقع الالكترونية والشارع من مثل: "الياسمين" زهرة الشرق العجيبة، فاعتبر أقلّ مقاما، فرُفِض. أمَّا نعت "الديمقراطي" فقد اختص بالانتقال، في حين برز إجماع حول صفتها "التونسية". وعلاوة على نجاعتها الموجهة، فإن عبارة ثورة تونسية لها منفعة معنوية تساهم في علاج الرأي العام. فهي تشمل البلاد بشعور بالنخوة وتعيد في كل فرد الحاجة للتوحد مع الآخرين. فهذا الشعار يؤسس من جديد لتونسة تمَّ السطو عليها وتصلح شعورا بالوحدة الوطنية فُقِدَ.

         إن انتفاضات المناطق المحرومة هي القاعدة الشعبية، أما آليات التضامن المتحدية لشبكة المراقبة، فهي الخميرة المنمِّية  للإضطرابات. منذ سنوات وحدت البطالة الشبيبة بفقرائها وحاملي الشهادات وضمت إليها كل الفئات الاجتماعية. وفي ذات الوقت، مثَّل انتقال مشعل الانتفاضة وقوة الحضور النسائي في المظاهرات  أواصر توحيد الانتفاضة من الوسط الغربي إلى العاصمة مرورا بالمدن الساحلية لحركة كانت تكتسح البلاد وتشملها. هذه الديناميكية الموحدة التي عمَّت الفضاء الوطني صنعت في بضعة أسابيع خميرتها الوطنية الخاصة بها. وأمام الإمعان القمعي رفع بَحَّارة الانترنت وأصحاب المواقع الافتراضية والمتظاهرون العلم الوطني كشعار لاتحادهم، معلنين عن قطيعة إزاء نظام أصم وعن تحدٍّ لهيمنته. إن استرجاع هذه الراية الوطنية أدى إلى استرجاع النشيد الوطني، ممّا مكَّن من استعادة صورتين من الذات الوطنية. ففي الداخل استعاد العلم الأحمر والأبيض مكانته المقدسة والفريدة في مواجهة لنظام مهوَّس بالبنفسجي كلون زاحم العلم الأصلي. أما على الصعيد الدولي، فقد رفع العلم كرمز للكرامة السياسية المسترجعة من منتحلين دخلاء ومفضوحين.

         إن سرعة الحدث الغريبة باغتت الشهود والملاحظين السياسيين، فعلاوة على الانبهار، يوحي الحدث بتساؤلات تتعلق بظرفيته وبكيفية حصوله وبالفاعلين فيه. فهل هو مُبَوَّأ ليصبح فريدا بالنسبة لكتابة تاريخنا الوطني، ليُدَوَّن بحروف غليظة في ذاكرتنا وتاريخنا؟ وهل بإمكاننا مقارنته بسوابق في التاريخ التونسي المعاصر؟ هذه الحركة التي آلت إلى شرخ ضخم للنظام بفرار رئيس الدولة، هل لها مثيل سابق؟ ما هي الأحداث المعروفة التي يمكن أن تقارن بها؟ أثار مختصون ثورة 1864، وهي انتفاضة ضدّ الجباية المجحفة جنَّدت سكان منطقة تالة والقصرين بقيادة علي بن غذاهم ضدّ سلطة الباي. إن ما يوحي نسبيّا بهذه المقارنة هي القاعدة المجالية لهذه الحركة القبلية وصبغتها "الشعبية" ضد نظام مركزي مستبدّ. لكن في الوضع الحالي، أين يمكن أن تتبلور القطيعة التي تعنيها عبارة "الثورة"؟ إذا كان الفقر كعامل اقتصادي وعنف اللامساواة الجهوية يقربان سنة 1864 وسنة 2011، فكيف نقيّم البعد الاجتماعي المنمِّي لحركةٍ تواصل وقعها القوي لمدّة أربعة أسابيع؟ هنالك عدة سوابق في تاريخ تونس المعاصر يجب مساءلتها لاستكمال نظرة بعيدة المدى نذكر من بينها: انتفاضة تالة-القصرين سنة 1906 وحوادث أفريل 1938 بتونس العاصمة والاحتجاجات الطلابية في مارس 1968 والاحتجاجات ضد التعاضد سنة 1969 والحركات النقابية في جانفي 1978 وأحداث الخبز سنة 1984 وإضرابات الحوض المنجمي بقفصة في خريف 2008. ولئن لم نستطع تأكيد التواصل الواضح لهذه الحُمَّى الاجتماعية عبر هذه الفترات ذات النتائج المتفاوتة، فإنه لا يمكن أن ننكر المضمون السياسي لهذه الانتفاضات. هذه الحركات الشعبية بقيادة القوى الشابة والكادحة والطلبة والعاطلين عن العمل، تعبر بوضوح نسبي وإبان وقوعها عن تطلعات إلى العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية والحقوق السياسية. إن المؤرخين لا يعرفون كل زعماء هذه الحركات حتى وإن حفظت الذاكرة المحلية أسٍماء البعض منهم.

         الزمن الثوري

         في انتظار دراسات معمقة وعلى المدى الطويل، نسجِّل عمليات آنية حصلت في مستوى رمزية السلطة وفضائها بعد 14 جانفي. ولئن لم يبرز إلى حد الآن كل الفاعلين في الأحداث منذ ديسمبر 2010، فإن إحصاء الثلاثمائة قتيل يبقى، إلى جانب الأسباب، في حاجة للضبط. وإلى حدّ الآن يجمع الرأي على تحديد عصابة من الخونة تتكوّن من عائلات بن علي والطرابلسي وعلى تتويج البوعزيزي بطلا شعبيّا، يخلّد اسمَه شارع رئيسي في العاصمة وساحة بمدينة سيدي بوزيد. في خضم هذا المدّ الثوري، أُزيحت تسمية 7 نوفمبر المكروهة عن المؤسسات والفضاءات والنقائش العمومية. إن الإرادة الصارمة لمحو رموز النظام السابق ومؤسساته وممارساته وتقاليده تفسِّر سرعة الفسخ القانوني الذي حلَّ الدستور والمؤسسات وأطرد الدائرة الأولى من أعوان الحزب-الدولة. هذا القضاء على الرموز والشعارات الذي استغرق بضعة أسابيع، يحيل على المبادرات الأولية للثوريين حين يستأثرون بالسلطة، في مناطق وأزمنة أخرى.

         غير أن هذه القطيعة العنيفة التي تعبّر جزئيا عن إرادة التطلع إلى مستقبل أفضل، لا تخلو من نوع من الحنين إلى الماضي، كإفصاح عن وجود أزمة، حيث تمَّ اختيار عدة وزراء عملوا مع بورقيبة. فاستعادت الذاكرة هذا العهد الذي لم يمَّح من الأذهان بسبب فشل إُخماده بالقوّة، فبرز مُفعما بالموارد الثرية لشحن معنويات الحاضر. فرأينا عودة شخصيات غادرت الحياة العامة، للحديث في وسائل الإعلام ورواية أحداث مسكوت عنها إلى حد الآن.  فإقرار هذه الرواية للماضي أدّت إلى إحياء شرعية الزعيم الوطني. فتمَّ ربطها باشمئزازه من المال ؛ أما "الفايسبوك" فقد استعمل لإعادة اكتشاف قدرة بورقيبة الخطابية وذلك عبر بثّ خُطبه وتصريحاته.

         في خضم البحث عن غدٍ ثوري وما يعنيه من قرارات القضاء على الماضي المقيت، استُنْجِد بطاقاتٍ من العهد البورقيبي : وربط الصلة بذلك الزمن ساهم في طمأنة النفوس وسط الفراغ الحالي. ففي هذا التأرجح بين تعلّق بماضٍ قريب وتوق إلى المستقبل، وبين حاجة للفهم وضرورة الفعل، برزت ظاهرة معاصرة أثرت بقوة، ألا وهي آنية تلقِّي الخبر ونمط انتشار الأخبار خارج البلاد ووقعه. لئن حددت الانترنت والشبكات الاجتماعية اليوم تضافر قوى الرفض ومكَّنت من نقل الأخبار خارج الحدود الوطنية، فإن هذه الوسائل تدعم البعد العالمي للثورة التونسية وتنشر أصداء رسالتها الرمزية على الصعيد الدولي. إن قوة تأثير الحدث هي حصيلةٌ متفجِّرة صارخة لوقائع ثورية وحيثيات أفرغت قمة الدولة ولتأثيرات شبكات كوَّنتها وسائل الإعلام على الصعيد الكوني.

فالمسار الإعلامي الذي يبث الخبر، ويضخم وقعه ليضعه جاهزا للقارئ بصورة آنية على شاشات الحواسيب وداخل قاعات التحرير عبر العالم، هو نفس المسار الذي حوّل عبارات "سيدي بوزيد"- اسم مدينة في الوسط الغربي التونسي- إلى "علامة مرجعية"، وهو الذي حوّل صيغة الأمر "ارحل"إلى شعار عالمي، كما جعل كلمة "ياسمين" عبارة ممنوعة من قبل شرطة الإعلامية الصينية. وكما يبث نسيج الاتصال الافتراضي موجة الامتعاض فإنه يرسي متابعةَ الأحداث، مؤسسا لرأي عام دولي إزاء سلط تنفيذية عاجزة.

         فبين القمع الأعمى مصدر الأخبار والعواطف والعمل الثوري ، أصبح المركز التونسي المشعّ بفضل قوة التكنولوجيا المعولمة مَخْبَرًا تأكَّدَت فيه استفاقةُ إرهاصاتِ المساواة والحرية التي تستفز الوعي وتزعزع الأنظمة في الداخل وتهدم جدار اللامبالاة في الخارج. انفجر معقل الأحداث كقطب للعاطفة السياسية، لبلورة وعي غير منتظر في عالم متقوقع جرَّاء صدمة سبتمبر 2001 التي لم يقع تجاوزها ومشلول بالانعكاسات السلبية لأزمة 2008 المالية ومنقسم بسبب المصالح العاجلة الآنية.

         ورغم الغموض الجاثي على مآل تونس ومحيطها، فإن هذه الثورة الحاصلة على صعيد وطني اتخذت مظاهر حدث أوسع، سيصدّع نظاما جغرافيا سياسيا منهكا ومثقلا.  لقد فتح هذا الحدث أقفال دولة اشتهرت باستقرارها وأسقط منظومة تصرف سياسي-مالي تجاوز تلك الدولة. كما حطّم الثقة الممجوجة التي سهَّلت الاتفاقيات والمصالح ووضع حدّا لاستقرار توازن هشّ.

         مثَّل الزلزال ذو التبعات المجهولة غير المنتظرة كما أنبأ الانفجار التونسي بتغييرات مجهولة العواقب وقرّب ظواهر كان يُظَنُُّ أنها متباعدة وضمَّ آفاقا استحال تقريبها. لقد جسَّد هذا التحرر السياسي التقاء وقائع محلية بصداها العالمي وأفصح عن انصهار تطلُّعات فردية للديمقراطية مع تعاطف عالمي، وبذلك كشف هذا التحرر عن نقاط التقاء تنبئ بإعادة صياغة للعلاقات الاجتماعية وربما أيضا بملامح التكتلات الاقليمية عبر العالم.

         في الوقت الذي يتواصل فيه التقتيل الفظيع في اليمن وليبيا والبحرين وسوريا، حيث تستمر في العمق موجة الثورات من أجل الحرية مقابل التسويف وإراقة الدماء، قد تبدو هذه التأملات التاريخية حول مرحلةٍ ثوريةٍ ساذجةً. لكن المتأكّد أنها وقتية بسبب استحالة كتابة تاريخ لا يزال متحركا، والمرحلة تشهد على مدى تعقيد القضايا التي تحركها مثل هذه الشحنة الثورية. إن الأكسجين المتولد عن هذه الفرقعة العجيبة يزعزع صورة جامدة عن بلدان معروفة، ويُوَلِّد المخاوفَ من بروز مبادئ مرتجلة وشركاء غير منتظرين. إنّ الضغط، مثله مثل الخوف، حين ينتقل من صف إلى آخر، يتسبب في انقلاب موازين القوى ممّا يخلق ممكنات متناقضة لزمن ما.

         هل بإمكاننا التنبؤ بالتبعات المترتبة عن استمرار وقعٍ عاطفي في هذه المناطق التي يتواصل فيها قتل الناس؟ في الوقت الراهن، ونظرا لإحجام قادة الشمال ولقلق الأوساط الاقتصادية والسياسية، تدخل الساحةَ أطرافٌ جديدة لتقلب قانون اللعبة؛ فرغم ضعفهم، ظهر رجال ونساء في هذه البلدان الخاضعة لنظام لا يطاق، لصيانة شرارة الأمل بهدف إنجاز تغييرات نتمنّى أنها تتقدّم بدون رجعة، نحو حياة أكثر ديمقراطية في تونس وغيرها من البلدان.

         إن الثورة التونسية لم تبح بعدُ بكل أسرارها، تماما مثل أبي الهول، الطائر الأسطوري.

 

 

حمام الأنف في 10 أفريل2011