مشاهد وحكايات من ثورة مصر

Mansoura EZ ELDIN


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

الثلاثاء 25 يناير:

صباحاً:

أفتح صفحتي على موقع "الفيس بوك" صباحاً فأجد هدوءاً تاماً. لا شيء كان يدل على ما سيحدث فيما بعد. يكتب صديق في صفحته أنه في طريقة للتظاهر في شارع جامعة الدول العربية. فأعلق مداعبةً: أمتأكد أنك ذاهب للتظاهر؟! يرد وقد فهم ما أعنيه: ذاهب وحدي للمشاركة في حفل تحرش جماعي!، ذلك أن هذا الشارع شهد في السنوات الأخيرة خلال الأعياد المختلفة عدداً من حالات التحرش الجماعي المخجلة. لم يتوقع أي منا ما سيحدث، ظنناها ستكون مظاهرة أخرى كتلك المظاهرات التي شهدناها وشاركنا في بعضها على مدى العقد الماضي. لم نعتقد أبداً أن الثورات سوف تنتقل إلينا بالعدوى. 

لكن لحظة! علينا الانطلاق من نقطة البدء. أي من ثورة الياسمين في تونس. إذ بمجرد نجاحها في اسقاط زين العابدين بن علي وصل عبيرها سريعاً إلى مصر، فانتشرت الدعوة عبر موقع الفيس بوك لثورة مصرية تبدأ يوم 25 يناير. سخر الجميع من دعوات شباب تويتر وفيس بوك. هل تقوم الثورات الشعبية في مواعيد محددة سلفاً؟ هل تحولت الثورة إلى موعد غرامي؟ تساؤلات مشابهة تم طرحها في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الجلسات الخاصة لكن الأمل كان يحدونا جميعاً بمن فينا المشككون في جدية الدعوة.

أتذكر أن بيان المطالب الأولي الذي تم تداوله على الفيس بوك قبل 25 يناير بعدة أيام لم يكن لينبئ أبداً عمّا تحقق بعدها على أرض الواقع. على رغم تسمية الحدث المزمع القيام به بـ"ثورة 25 يناير" كانت المطالب المكتوبة بسيطة مقارنةً بما طالبت به الثورة ثم أنجزته فيما بعد. أحد أبرز المطالب وقتها كان "رفع الحد الأدنى للأجور"، وهو الأمر الذي استفز صديق لي فأعاد نشر البيان على صفحته مسبوقاً بجملة "يا جماعة الخير الثورات لا تطالب برفع الحد الأدنى للأجور إنما تطالب بالسلطة"! لكن على أرض الواقع تبلور الخطاب ونضجت المطالب بشكل فاجأ الجميع بما في ذلك الثوّار أنفسهم.

ففي لمح البصر نجح جيل فيس بوك وتويتر في استقطاب مئات الألاف إليهم على امتداد الدولة من شمالها إلى جنوبها، مئات الآلاف خرجوا إلى الشوارع في اليومين الأولين ومعظمهم من الشباب غير المسيس وغير المنتمي لدوائر المعارضة التقليدية، فمن دعوا إلى هذه الانتفاضة الشعبية ونظموها ينتمون إلى جيل جديد يجيد التعامل مع الانترنت ويعاني من غضب هائل من التعذيب في أقسام الشرطة وعدم احترام حقوق الإنسان في مصر ويحلم بدولة ديموقراطية تحترم مواطنيها. جيل نجح في ايصال صوته لكافة أطياف الشعب وفئاته التي سارعت للانضمام إليه لتتحول ثورة 25 يناير إلى ثورة شعبية بامتياز.

بدايةً من مساء اليوم الأول بدأ الجميع في ادراك أن ما يحدث هو انتفاضة غير مسبوقة لجهة العدد الهائل من المتظاهرين وسقف المطالب الذي ارتفع مطالباً باسقاط النظام الفاسد، ولجهة استبسال المتظاهرين في وجه عنف الشرطة وأجهزة الأمن التابعة لمبارك.

الاربعاء 26 يناير:

في مكتبي بالجريدة كنت أسابق الزمن للانتهاء من عملي من أجل النزول إلى المتظاهرين في ميدان التحرير. الأربعاء هو يوم تنفيذ العدد. النافذة مفتوحة بينما أجلس منذ مدة لا أعرف مداها أمام جهاز الكمبيوتر. فجأة أنتبه على رائحة كريهة تعبِّق الهواء فيما يتعالى الضجيج في الخارج. أحدس باقتراب المظاهرات من شارع الصحافة وحي بولاق أبو العلا القريب، وهو ما يؤكده أحد الزملاء. من مكتبه في جريدة الأهرام يتصل بي يوسف رخا ليخبرني أن الأمن المركزي يضرب المتظاهرين أمام الجريدة بالرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع. نتفق على النزول معاً للتحرير بمجرد الانتهاء من العمل. تتعالى هتافات المتظاهرين أكثر مطالبين باسقاط مبارك ونظامه، وتزداد الرائحة الكريهة في أجواء المكتب مسببةً حرقة في الجلد وحكة في العينين، فأعرف أن كمية الغازات المسيلة للدموع التي ألقيت على المتظاهرين كانت هائلة لدرجة وصولها إلى داخل الجريدة عبر النافذة. سأعرف في ما بعد أن هذه الغازات التي ملأت هواء منطقة بولاق أبو العلا القريبة قد دخلت إلى البيوت وتسببت في حالات اختناق لأطفال وعجائز. بينما أسير مع يوسف في الشوارع بعد الانتهاء من العمل، كان هدوء حذر قد حلّ. عربات الأمن المركزي تحيط بالشوارع كأنما تكبلها. روائح الغازات المسيلة للدموع لا تزال تملأ الهواء. ووسط المدينة كأنما يرتجف مترقباً ما سيحل.  

الجمعة 28 يناير (جمعة الغضب):

ظهراً:

التقينا، هالة صلاح الدين ويوسف رخا ونائل الطوخي وأنا في الدقي، وذهبنا معاً للمشاركة في التظاهرة السلمية التي ستخرج من جامع عمرو بن العاص. بعد صلاة الجمعة مباشرة خرجنا بهتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» ومع الصيحة الأولى استقبلنا الأمن بعشرات القنابل المسيلة للدموع رددنا هتاف «سلمية سلمية» لتوصيل رسالة للأمن بأننا مسالمون ولا نطلب إلا الحرية فزادت الشراسة ضدنا. تعقد الوضع وامتد إلى الشوارع الجانبية، لجأت وهالة إلى شارع جانبي فاستقبلنا الأهالي بالترحاب حذرونا من التوجه إلى مترو الانفاق الآن وأشاروا إلى طرق الخروج إلى أقرب شارع آمن، انضم الكثيرون منهم إلى المتظاهرين، كما حدث في أماكن أخرى كثيرة. الشوارع الضيقة تحولت إلى متاهة حوصرنا بداخلها، كلما توجهنا إلى واحد منها فوجئنا بالأمن وغازاته المسيلة للدموع ورصاصه المطاطي. في النهاية أقلّنا أحد المواطنين بسيارته الخاصة إلى خارج المنطقة، كنا نرغب في الاتجاه إلى تظاهرة ميدان التحرير، قمنا بحيل عديدة حتى استطعنا الوصول إلى وسط المدينة، فوجئنا بحشود الأمن المنتشرة بكثافة هناك. التحقنا بتظاهرة أخرى تجوب الشوارع المحيطة بميدان محمد فريد معظم المشاركين فيها من الشباب، من بعيد أتانا الصوت الهادر لتظاهرة ميدان التحرير الضخمة وأصوات الصراخ والرصاص، لحظة بعد أخرى يكسب المتظاهرون أرضية جديدة وينجحون في ضم الآلاف إليهم، يتبادلون زجاجات الكوكاكولا التي يغسلون بها وجوههم لتجنب تأثير الغازات المسيلة للدموع أو يغطون أنوفهم بكمامات ويرشون كوفياتهم بالخل للهدف نفسه. أصحاب المحال التجارية يناولون المتظاهرين زجاجات المياه المعدنية مجاناً، ومواطنون ومواطنات يمدونهم بمواد غذائية من وقت لآخر. بين الجموع وبينما أحاول قدر الامكان تفادي القنابل الملقاة ومقاومة أثرها البشع، رأيت فتاة شابة تبكي بحرقة وتصرخ كأنها فقدت عزيزاً منذ قليل، هذه الجميلة الباكية التي تمثل غيرها من ملايين المصريين، إن لم تكن فقدت أحد أقاربها في عبّارة غارقة، فقد يكون احترق في قطار من قطارات الصعيد، أو غرق، في طريقه إلى إيطاليا، في أحد قوارب الموت، أو عانى من المرض نتيجة المبيدات المسرطنة ومياه الشرب الملوثة، أو حتى وببساطة قد تكون مثلنا جميعاً شاهدت عن قرب كيف تُسرق الأحلام وتُحتقر إرادة الشعب ويتم تزوير صوته. لن أنسى أبداً تلك الفتاة، كما لن أنسى المرأة الارستقراطية التي كانت تمر بسيارتها الفخمة في الشوارع الجانبية لوسط المدينة لتبشير من تقابلهم بصلابة واستبسال المطالبين بالحرية في ميدان التحرير وانضمام عشرات الآلاف إليهم، من القادمين من مناطق أخرى. كان دورها حيوياً كوننا كنا وقتها معزولين عن العالم. فمع منع خدمة الانترنت وحجب تغطية الهواتف النقالة لم نكن قادرين على التواصل مع أصدقائنا في التظاهرات الأخرى التي انتشرت في كل مكان. حتى مرت تلك المرأة لم نكن نعلم الكثير عن تظاهرة ميدان التحرير القريبة سوى ما نستنتجه من أصوات هادرة قادمة إلينا، كما لم نكن نعرف شيئاً عن تظاهرة ميدان الجيزة أو ما يجرى في السويس والأسكندرية وغيرها من المدن.

مساءً:

منعني حظر التجول من العودة إلى منزلي، فقضيت الليلة في بيت هالة القريب من مجلسي الشعب والشورى ووزارة الداخلية، أي أكثر المواقع اشتعالاً. طوال الليل لم يتوقف إطلاق الرصاص الحي من جانب قوات الشرطة والأمن المركزي. تابعناهم عبر النافذة وهم يطلقون الرصاصة باستهانة نحو المتظاهرين ونحو محطة البنزين المجاورة رغم ما قد يترتب على ذلك من كوارث. كنا نسمع أصوات انفجارات قريبة لا نعرف مصدرها، لكن لحسن الحظ رغم كل هذا ورغم حظر التجول لم تنقطع مسيرات المتظاهرين، ولم تنقطع هتافاتهم المطالبة بالحرية والكرامة وسط غضب هائل من تأخر مبارك في التحدث إلى الشعب، وعدم ارتقاء الخطاب الهزيل الذي ألقاه بعد منتصف الليل إلى مستوى الحدث الخطير.

ساعة بعد ساعة كانت الفوضى تزداد مساء الجمعة، أقسام شرطة ومقار للحزب الحاكم تشتعل. المدينة كلها تحولت إلى قطعة نار متأججة بسبب جنون أجهزة النظام الذي بدأ يتهاوى رغم رفضه الاعتراف بهذا. حافظ المتظاهرون على سلميتهم لأقصى درجة مقدمين درساً مفاده أن هذا الشعب أكثر تحضراً من حكامه الجشعين. بكيت تأثراً حين عرفت ان ثلاثة آلاف متظاهر قد كونوا دروعاً بشرية لحماية المتحف المصري من السرقة ومثلهم فعل آلاف آخرون لحماية مكتبة الأسكندرية. من يقومون بفعل مماثل هم بلا شك شباب مثقف ومتحضر لا يصح اتهامه بالتخريب من جانب من عملوا هم على تخريب مصر وقهر مواطنـــيها على مدى عقود، ومن أطلقوا المجرمين من السجون وميليشيات مسلحة للانتقام من الشعب الثائر. كنت في موقف لم أختبره من قبل، أشعر كأن ثمة حرب فعلية يشنها نظام مجنون أخذ شعبة كرهينة معزولة عن العالم عبر قطعه كل وسائل الاتصال الحديثة. من حسن الحظ أن الهواتف الأرضية لا تزال تعمل داخل مصر، هاتفت طفلتي ذات الثماني سنوات لأطمئنها. شعرت بالذنب حين جاءني صوتها ملتاعاً خائفاً عليّ كأنها أمي لا ابنتي. شرحت لها الموقف باختصار وطلبت منها ألاّ تشاهد الفضائيات التي تعرض الأحداث في مصر، لكنها أجابتني بنوع من الجزل أنها رأت دبابات الجيش وهي تجوب شوارع القاهرة، وأنها سعيدة بذلك. احترت كيف أجيبها، وأنا نفسي شعرت بانقباض لمرأى دبابات ومدرعات الجيش تنزل المدن، ولم أفهم لأول وهلة ترحيب الناس بها وهتافهم "الجيش والشعب ايد واحدة". خفت لحظتها أن يخيب الجيش أمل الفرحين بنزوله.

السبت 29 يناير:

صباحاً:

خرجت متجهة لبيتي. شارع حسين حجازي حيث تسكن هالة بدا كأنما خرج لتوه من معركة شرسة. رائحة الحريق تملأ الجو، والزجاج المتكسر يغطي المكان. العربات المركونة في الشارع تهشم بعضها في أكثر من موضع، وثمة مدرعات أمن مركزي محترقة ومقلوبة هنا وهناك. قلت سأتوجه إلى ميدان التحرير للاطمئنان على المتبقين هناك وعلى حالة المتحف المصري من الخارج على الأقل. قوات الجيش المنتشرة في كل مكان كانت حازمة في منعي مع آخرين من الدخول إلى الميدان. ثمة صوت إطلاق نار متواصل من هناك. سألت بقلق أحد المارين هل الجيش هو من يطلق عليهم؟ فردّ بثقة «بالطبع لا لم يحدث أبداً أن أطلق الجيش المصري النار على أحد المصريين ولن يفعل الآن». تمنيت لحظتها أن أملك ثقته هذه.

انحرفت إلى أحد الشوارع الجانبية في حي جاردن سيتي في طريقي إلى الكورنيش، فقابلت امرأة تبكي سألتها عن السبب فاخبرتني ان ابنها العامل البسيط في فندق سميراميس قد أصيب أمس على يد الشرطة برصاصة في حلقه وانه الآن يرقد في المستشفى غير قادر على الحركة، وانها في طريقها إلى الفندق لتحصل على إجازة مرضية له، اقتربت منها واحتضنتها فقالت من بين دموعها «لا يجب ان نسكت على ما حدث. الصمت جريمة. دم من سقـطوا لا يجب أن يذهب هدراً». وافقتها دونما كلمات. في الطريق إلى البيت لاحظت متأخراً غياب عساكر وضباط المرور سألت سائق التاكسي، فرد بأن أجهزة الشرطة والأمن انسحبت كلها بشكل مفاجئ. "يريدون معاقبتنا". قال باستهانة لم تقدر على مداراة حقده عليهم.

مساءً:

كانت الفوضى والترويع وأعمال السلب والنهب هي عناوين الأحداث. بدا لنا جميعاً أن انسحاب أجهزة الأمن أشبه بخطة مدروسة للانتقام والتخويف، إذ ترافقت مع فتح السجون وإطلاق سراح المسجونين والمجرمين المسلحين. تتصل بي صديقة تسكن في شارع قريب وتخبرني أن البناية حيث تقيم تعرضت لمحاولة اقتحام من مجرمين مسلحين منذ قليل، وحذرتني من سيناريو مشابه، لأن هذه العصابات المسلحة لم تترك منطقة سكنية إلا وهددتها. طمأنتني بأن اللجان الشعبية التي تكونت على عجل تتصدى لهم وأعطتني رقماً خصصته القوات المسلحة لاستغاثات المواطنين. بشكل طفولي قلت لنفسي من المستحيل أن يحدث هذا لبنايتنا، كنت كأنما أقول أن هذه الأحداث تحدث فقط للآخرين قبل أن أعود لنفض هذا الخاطر الساذج كي أواجه كل الاحتمالات بعقلانية. ما جرى يوم جمعة الغضب وما شهدته في الشوارع من قتل وعنف مجاني منحني الكثير من الشجاعة، إلاّ أنني كنت خائفة على طفلتي ومشفقة عليها مما قد يحدث.

بعد أقل من نصف الساعة على مكالمة صديقتي، بدأ الهجوم على بنايتنا، لحسن الحظ كان البواب قد أغلق البوابة الحديدية بالمفتاح. بدأ المهاجمون في إطلاق الرصاص للترهيب وتعالى الصراخ والضجيج بالأسفل، كانت طفلتي ترتعش بينما أحاول دون جدوى الاتصال برقم الاغاثة التابع للجيش. حدثت ضجة كبيرة فتخيلت أنهم نجحوا في كسر البوابة، لكن لحسن الحظ نجح اللجنة الشعبية المكونة من سكان الشارع في صدهم. كانت مهمتي الأصعب هي كيف أشرح لنادين كيف تتخلى أجهزة الأمن عن دورها في حماية المواطنين؟ وكيف تتواطأ مع من قاموا بهذه العمليات (كانت الأخبار تتردد أن بعضاً من أفراد الشرطة السرية قد تورطوا في عمليات السرقة والترويع). كانت الرسالة التي وصلتنا هذه الليلة لا لبث فيها: مبارك ونظامه يخيرون الشعب "إما نحن أو الفوضى والدمار". وجاءهم رد سريع مفاده: "الاستقرار يتحول إلى وهم وأكذوبة إذا جاء على حساب كرامة الانسان وحريته.. الآن زادت الأسباب الداعية للاطاحة بكم"!

الأربعاء 2 فبراير أو الأربعاء الدامي:

في هذا اليوم صباحاً كنت في ميدان التحرير، لم يكن الوضع ينبئ عمّا سيحدث بعد قليل. منذ أن تولى الجيش زمام الأمور عقب جمعة الغضب وانسحاب أجهزة الأمن، كانت المظاهرات تجرى في ظل درجة من الهدوء النسبي إذ لم يتورط الجيش وقتها في ضرب من عليه حمايتهم على عكس ما فعلت الشرطة وأجهزة الأمن المختلفة قبله. غادرت الميدان لارسال مقالين كتبتهما عن الثورة لجريدتي المستقبل والسفير اللبنانيتين عبر الفاكس، وبمجرد عودتي للبيت فوجئت أن خدمة الانترنت قد عادت. فتحت صفحتي على الفيس بوك لأجد مئات الرسائل من أصدقاء من دول مختلفة معظمهم قرأوا مقال نشرته لي النيويورك تايمز عن أحداث جمعة الغضب ويعبرون عن تضامنهم مع شعب مصر. وما هي إلا فترة قصيرة حتى جاءت الأخبار عن مذبحة تجرى في ميدان التحرير، إذ قامت فلول النظام اليائس بعد أن تم فضحه أمام العالم باستئجار بلطجية لضرب الثوار في ميدان التحرير بقنابل المولوتوف والسنج والمطاوي. كان مشهداً بالغ الرمزية: بلطجية ومسجلين خطر يركبون الخيول والجمال يهاجمون بوحشية متظاهرين سلميين من يعبرون عن كافة أطياف الشعب. في هذه اللحظة كشف النظام عن وحشيته ووجهه القبيح بشكل غير مسبوق. كنا أمام عقلية تركب الجمال تواجه عقلية "سوفت وير" كما لخص أحد الكتاب الموقف. منذ هذه اللحظة أدرك كثيرون أن المعركة ضد نظام مبارك هي أيضاً معركة دفاعاً عن الحضارة ضد الهمجية.

الخميس 10 فبراير:

نهاراً:

قضيت النهار كله في ميدان التحرير الذي وصلنا إليه بعد مظاهرة للكتاب والمثقفين أمام المجلس الأعلى للثقافة صبت في النهاية في الميدان الذي بدا كعادته طوال أيام الثورة كساحة للحرية مفعمة بالتفاؤل والحماس وكل أشكال الفن وخفة الروح في الهتافات والشعارات. انتقلنا منه إلى شارع مجلس الشعب الذي ضمه الثوار إلى ما أسموه بـ"المنطقة المحررة".

مساءً:

في السابعة مساءً، غادرت بيتي مسرعة للّحاق بما ظننته احتفالات بتنحي مبارك. كنت قد عدت لبيتي في حوالي الخامسة مساءً، لكن عندما تتالت أخبار وتكهنات عن أن مبارك سوف يعلن تنحيه عن السلطة في خطابه الذي سوف يلقيه بعد قليل، قررت الرجوع إلى الميدان للاحتفال مع المحتفلين هناك لأن المكان أصبح أيقونة ورمزاً للثورة رغم أنها تعدته لتنتشر في كل أنحاء مصر.

في طريقي إلى هناك، شعرت أنني في مصر أخرى غير التي أعرفها، الهواء بدا مختلفاً لم أشم فيه رائحة العوادم المعتادة، ولم ألحظ في الشوارع تلك الروح الكئيبة اليائسة التي سيطرت خلال السنوات الماضية. بدا الأمر كأن عالماً قديماً ينزاح مفسحاً الطريق لعالم آخر جديد. الجميع في حالة نشوة وابتهاج منتظرين خطاب مبارك وقد تخيلوا أنه سيكون الخطاب المكلل لنجاح الثورة. في التاكسي انساب النشيد الوطني السابق "اسلمي يا مصر" من جهاز الكاسيت مذكراً بمصر الليبرالية قبل حكم العسكر، ومن البعيد حيث ميدان التحرير تسربت إلى أذنيّ إيقاعات الهتافات والأغاني الحماسية. في الميدان نفسه كانت الأجواء احتفالية أكثر منها نهاراً، ثمة استرخاء لا تخطؤه العين، وشبه تيقن من أن جهد الأسبوعين السابقين سيكلل بالنجاح بعد قليل. في هذه اللحظة بدت الثورة كأنما تحولت إلى عيد: ثمة أضواء أعطت للمكان رونقاً خاصاً، وأغانٍ احتفالية وحماسية، وأحاديث تحاول التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في النهاية. بعد ما يقرب من الساعتين بدأنا نتململ ساخرين من احساس مبارك ونظامه المتبلد بالزمن.

خفنا ألاّ نتمكن من الاستماع للخطاب بوضوح وسط صخب المكان، فقررنا البحث عن أقرب مقهى على أن نعود بمجرد الانتهاء من الخطاب للاحتفال مع المحتفلين. وكان أن تحلقنا، حول عربة تاكسي فتح سائقها أبوابها الأربعة لنستمع من جهاز الراديو بها إلى الخطاب المخيّب للآمال الذي أطلق عليه أحد الواقفين ساخراً "حديث الذكريات" كون الرئيس المخلوع أخذ يحدثنا فيه عمّا قدمه للوطن منذ شبابه. قرابة العشرين شخصاً، معظمهم لا يعرفون بعضهم بعضاً، تحلقوا في ذاك المساء بأعصاب عارية منتظرين سماع جملة محددة وواضحة وضوح جملهم ومطالبهم، لكنهم استمعوا بدلاً من هذا إلى مجرد لغو وثرثرة مراوغة تحاول الالتفاف على المعنى والقفز فوق الحقائق الجلية. على مقربة مني وقف شاب في أوائل العشرينيات، يرتدي سترة جلدية على أحدث صيحة وبنطالاً من الجينز الأمريكي ويعتمر "كوفية" فلسطينية بدت كإكسسوار يمنحه مظهراً ثورياً من دون أن يعني بالضرورة انتماءه إلى النمط الثوري القومجي القديم. كان مهتاجاً نافد الصبر وهو يتابع لغو مبارك الذي بدا لنا بلا معنى، "لّخص" هكذا كان يردد محتداً بين لحظة وأخرى، قبل أن يبدأ في تفنيد كل جملة ينطق بها مبارك محيلاً إياها إلى معناها الحقيقي، كأنما يترجم لغة فاسدة متواطئة إلى أخرى واضحة، واثقة، تسمي الأشياء بمسمياتها، لغته هو والجيل الذي ينتمي إليه. قبل أن ينتهي الخطاب صاح بقوة وفي عينيه كل تصميم الدنيا "سنموت في الميدان، لا بل سنزحف الآن إلى قصر العروبة" نطق جملته كأنه وحده من يملك قرار استمرار الثورة من عدمه. مع انتهاء جملته المتزامنة مع نهاية الخطاب، بدا ميدان التحرير من خلفنا كأنما يشتعل بفعل الصراخ الهستيري الذي انطلق كرد فعل على استهانة الرئيس المخلوع بالثائرين وعدم أخذه مطالبهم بجدية كافية. جاء رد الفعل عفوياً ومتناغماً من الجميع تقريباً، انقسموا بسرعة إلى فريق سيظل مرابطاً في الميدان، وآخر سيزحف نحو قصر العروبة، وثالث سيحاصر مبنى الإذاعة والتليفزيون. شيء ما في تصميم هذا الشاب وفي ثقته وتناغم رد فعله مع رد فعل كل الموجودين، جعلني أدرك بشكل غامض أن نهاية مبارك ونظامه باتت أقرب مما نتخيل.

الجمعة 11 فبراير:

أقف صباحاً فوق كوبري قصر النيل في انتظار صديق سأتوجه معه لميدان التحرير، في مواجهتي مبني الحزب الوطني المحترق. بدت المدينة منهكة، ورغم هذا، حرة ومختلفة. لأول مرة منذ سنوات أجدني أركز في كل تفاصيلها، أحدق في مياه النيل بالأسفل وفي تفاصيل البنايات والبشر.. كنت كأنني أستعيد الأماكن والأشياء بعد أن اعتدت طوال عشر سنوات مضت أن أمر بها كمن وجد نفسه مأسورا فيهاً داخل يوم واحد رتيب لا تتغير تفاصيله ويتكرر بشكل أبدي. كنت قد تركت الميدان بالأمس بعد منتصف الليل يغلي بالغضب عقب خطاب مبارك، وخفت أن أجد أي أثر للأحباط هناك، لكنني فوجئت بأن المعنويات أعلى من ذي قبل، فعلياً لم يكن هناك موطئ لقدم في الميدان أو في الشوارع المحيطة به. الحماسة كبيرة والثقة في النصر تقترب من اليقين.بعد ساعتين في الميدان أذهب إلى مقر دار ميريت للنشر التي فتحت أبوابها طوال أيام الثورة لدعم الثوار بكل طريقة ممكنة. أجد هناك الكثير من الكتاب، نتناقش حول الاحتمالات المستقبلية لبعض الوقت، قبل أن أعود من جديد للميدان حيث قلب الجميع وعقلهم كان مع من زحفوا باتجاه قصر العروبة حيث مقر مبارك، كان ثمة تخوف مضمر من أن يواجههم الحرس الجمهوري بعنف ينتج عنه مذبحة جديدة، إلا أن المشهد هناك كان أحد أروع مشاهد الثورة كلها، إذ ألقى الثوّار وروداً كانوا يحملونها معهم نحو الحرس الجمهوري المحيط بالقصر، وما أن فعلوا هذا، حتى رد الحرس تحيتهم بأفضل منها، وقام بتوجيه فوهات مدافعه نحو القصر بعد أن كانت موجهة نحو الثوّار! بعدها بقليل خرج عمر سليمان عبر الشاشات يعلن في بيان مقتضب تخلي مبارك عن الحكم الذي تولاه مؤقتاً المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتبدأ الاحتفالات المبتهجة.

الجمعة 25 فبراير:

بعد أسبوعين من سقوط مبارك، بدا ميدان التحرير مختلفاً بعض الشيء. الملايين الخمسة أصبحوا في هذا اليوم مئات الآلاف، لم ألحظ التدقيق المعتاد في هويات الداخلين إلى الميدان. البائعة الجائلون تزايدوا بشكل يثير الضيق وهم ينادون على بضاعتهم من أعلام مصر، وصور الشهداء أو زجاجات المياه والعصائر. مطالب المتظاهرين تركزت حول اسقاط حكومة شفيق كونها جزءاً من نظام مبارك، والمناداة بدولة مدنية، وتطهير أجهزة الأمن ومحاكمة مبارك ورموز نظامه. شيء ما يدعوني للانزعاج دون أن أتبينه بالضبط. في المساء يتعرض المعتصمون في الميدان وفي شارع مجلس الشعب لهجوم عنيف من قوة تابعة للجيش. يرتبك الجميع ويبدأ التشكك في دور الجيش ونتساءل: هل يتواطأ لمنع محاكمة مبارك ورموز نظامه؟ يعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن ما حدث خطأ غير مقصود ويعتذر عنه دون أن ينجح في اقناع المعتصمين بالعودة لبيوتهم. أصبح التصميم على الاطاحة بحكومة شفيق أكبر من ذي قبل.

الجمعة 4 مارس:

بعد أسبوع مرهق بدا كأنه اختبار للقوى والنوايا بين الثوار والجيش، قام الجيش بالاستجابة لمطالب الثوار وأعلن أنه قبل استقالة شفيق، العالمون ببواطن الامور يؤكد أنها إقالة لا استقالة، الأهم أن الجيش اختار عصام شرف وزير النقل الأسبق كرئيس جديد للوزراء. يحظى شرف بقبول كبير كما أنه شارك بنفسه في الثورة مطالباً بسقوط النظام. في خطوة بالغة الدلالة توجه شرف إلى ميدان التحرير يوم الجمعة 4 مارس وبمجرد تكليفه برئاسة الحكومة كي يبدأ عهده من الميدان مؤكداً للثوار أنه يستمد شرعيته منهم. خطوة كبيرة تحققت بالفعل، لدينا الآن رئيس وزراء مدني شارك في الثورة، وأمامه تحدٍ كبير في هذه الفترة الانتقالية. أتابع كلمة شرف في ميدان التحرير وأراه محمولاً على الأعناق في مشهد عفوي، ولا أقدر على منع نفسي من تأمل مفارقات التاريخ وألاعيبه. اليوم هو 4 مارس أقول بصوت مرتفع مذكرةً نفسي والآخرين، أن يومنا هذا يتوافق مع أزمة 4 مارس الشهيرة عام 1954 حين انقسم الجيش إلى فريقين بعد ثورة يوليو فريق يطلب العودة للثكنات تمهيداً لعودة الديموقراطية، وفريق آخر صمم على الحكم العسكري وانتصر للأسف. في اليوم نفسه بعد 57 عاماً يبدو الموقف كأنما سينعكس وسيعود الجيش قريباً إلى ثكناته بعد تاركاً الأفق لدولة مدنية ديموقراطية. أو على الأقل هذا ما نتمناه جميعاً، وما دفعنا ثمناً باهظاً له.