الإسلاميون ومسارات الثورة المصرية

Hosam TAMMAM


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

 

تم نشر هذا المقال في 7/2/2011

ثمة تركيز، مبرر أحيانا وغير برئ في معظم الأحيان، على موقع الإسلاميين في الثورة المصرية، وثمة أسئلة لا يتوقف طرحها خاصة من الميديا ومراكز الدراسات واتخاذ القرار في الغرب حول دور الإسلاميين في الثورة ووزنهم وتأثيرهم والدور المتوقع لهم في مصر ما بعد الثورة وما إذا كانت مصر بصدد إعادة إنتاج، ولو جزئيا، تجربة الثورة الإسلامية في إيران.

وقد تأكد لي، من خلال متابعة التغطية الإعلامية الغربية منذ الأيام الأولى من الثورة المصرية، وعبر عشرات الحوارات التي جرت بيني وبين باحثين وإعلاميين غربيين، ليس فقط أن هناك غيابا واضحا(وربما متعمدا) للمعطيات الجديدة، بل وعدم معرفة يتم توظيفها لغرض رسم صورة تقليدية لا علاقة لها بالواقع تخوف من الإسلاميين وتخوف بهم، فيما اصطلح على تسميته بالمأزق الإسلاموي، لوقف أي تضامن دولي وإنساني (وديمقراطي) مع هذه الثورة غير المسبوقة في تاريخ مصر.

إن أي حديث عن وضع الإسلاميين في مصر الجديدة يبدو غير ذي معنى إذا ما اعتمد على نفس المعطيات والخرائط التي كنا نعتمد عليها في دراسة الحالة الدينية في مصر، وإذا ما تجاهل أن الذي جرى هو ثورة هدمت كل المستقر والثابت في المشهد الديني المصري.

 لم تكن الثورة  فقط على النظام السياسي الغارق في الديكتاتورية والقهر والفساد والذي يعتمد على تحالف مافيات المال والإجرام والحكم، كما اتضح بجلاء حتى في محاولاته الحثيثة للبقاء وعدم السقوط، لكن كانت أيضا على المؤسسات الدينية لهذا النظام والخطاب الديني الداعم لاستمراريته سواء كان دعما مباشرا تنتجه تيارات ومؤسسات وشخصيات مرتبطة به أو كان دعما غير مباشر من فاعلين ينفصلون عن النظام لكن قد يلتقون معه في رفض الثورة.

ليس معروفا على وجه اليقين من أطلق الدعوة لتظاهرات 25 يناير التي زامنت عيد الشرطة والتي كانت شرارة الثورة التي استمرت (ولم تتوقف حتى سقوط نظام حكم الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير الماضي)، لكن المؤكد أنها لم تكن من حزب أو تيار سياسي معين، والأكثر تأكيدا أن التيار الإسلامي كان الأبعد عن إطلاق شرارة الثورة ابتداء، أو قيادتها لاحقا، فضلا عن أن تكون ثورته.

ومثلما وضعت الثورة المصرية الإسلاميين على اختلاف أطيافهم في حجمهم الطبيعي، كقوة في الشارع لكنها ليست القوة الوحيدة ولا حتى في المقدمة، فقد أعادت ترسيم المشهد الديني كاملا، وحددت موقع الشارع المصري من الدين ومؤسساته وخطاباته المختلفة، بحيث بدت لنا النتيجة مذهلة، ما كان لأحد أن يتوقعها: المصريون متدينون لكنهم قادرون على تجاوز كل سلطات المؤسسات الدينية وتحدي كل الخطابات الدينية حين تكون جزءا من كيان نظام فاسد وقمعي أو داعمة لاستمراره.

كانت المؤسسة الدينية الرسمية الأكثر خسارة في الثورة والأكثر تعرضا لتحدي الثورة، وهذا يصدق ليس على المؤسسة الدينية الإسلامية فقط بل والمسيحية أيضا. تأخر الأزهر الشريف كثيرا عن المشهد، وانتظر طويلا حتى خرج شيخه الدكتور أحمد الطيب ببعض تصريحات لم يكن فيها منحازا بشكل صريح وفج لمصلحة النظام، ولكنها كانت أقل كثيرا من جلال الثورة. بالطبع ما انتظر الثوار ثورة من قيادة المؤسسة الدينية الأعرق في العالم الإسلامي وهم ما انتظروا رأيها حين قاموا بثورتهم، فقط كانت توقعاتهم أن جلال الثورة كان يفرض خطابا مختلفا، لكن الازهر ما غيّر كثيرا من خطابه كمؤسسة دينية سنية أشعرية ورسمية مرتبطة كلية بالدولة، سواء في هيكليتها أو ميزانيتها، ولا تملك أدنى استقلالية.

دعا الأزهر إلى الهدوء حين كانت الثورة في أوجها، وأعلن رفضه اقتتال المصريين قافزا على حقيقة أن الذي جرى هو اعتداء مشين وإجرامي من النظام بمساعدة المجرمين والبلطجية على الثوار في ميدان التحرير، واكتفى بكلام عام يصب في إطار إنهاء الثورة دون أن يتطرق إلى النظام بشيء. لكن خفف من وطأة موقف الأزهر ما أبداه من تقدير للشباب الثوري، ودعوة شيخه لهم للحوار، واستقالة المتحدث الرسمي باسمه، السفير محمد رفاعة الطهطاوي، والتحاقه بالمتظاهرين، ورفض شيخ الأزهر لهذه الاستقالة، وكذلك مشاركة دعاة وأئمة منه في مظاهرات التحرير بلباسهم المميز.

وعلى تواضع موقف الأزهر وتأخره عن حركة الثورة المصرية فلم يصل إلى ما وصله موقف دار الإفتاء التي عملت ما في وسعها في تقديم الإسناد الديني للنظام، والذي وصل قمته يوم الجمعة ( 4 فبراير)  أو جمعة الرحيل بفتوى المفتي على جمعة بعدم الخروج لصلاة الجمعة!، وهي المناسبة الأهم التي دائما ما يعوّل عليها الثوار في حشد الشارع عقب الصلاة.

مرت أيام الثورة كاملة، وبدا واضحا أن الجماهير ما التفت أصلا إلى المؤسسة الدينية الإسلامية، وما أعارت أذنها لفتوى على جمعة التي جاء الرد عليها بالنزول لصلاة الجمعة في المساجد والانطلاق بأعداد مليونية للتظاهر، وعيا منهم بأنها فتوى سياسية لإسناد النظام دينيا، وسبق وأن تكررت منه كثيرا حين أفتى بأن شباب الهجرة غير الشرعية الذين يموتون في قوارب الموت منتحرون وليسوا شهداء!، وحين أصر على مواجهة حالة الانتحار احتجاجا بفتاوي تحريم الانتحار والقول بأن المنتحرين في النار كأنما كان حكما غير معروف لهم ودون أن يفتي في أمر من دفعوا بهم للانتحار بعد أن ضيقوا عليهم سبل الحياة الكريمة.

أما موقف المؤسسة الدينية المسيحية الأبرز ( الكنيسة الأرثوذكسية) فكان النموذج الأكثر فجاجة في الانحياز للنظام والالتصاق به، لقد رفض البابا شنودة بطريرك الكنيسة مظاهرات يوم الغضب ( 25 يناير) ودعا الأقباط إلى عدم المشاركة فيها، وشدد طوال الثورة على عدم الخروج للتظاهر أو المشاركة في فاعليات الثورة، ( أعلن البابا أثناء كتابة هذا المقال صراحة تمسكه بالرئيس مبارك ودعوته المتظاهرين لإيقاف تظاهراتهم)، وهو ما رفضت غالبية قبطية الالتزام به ونزلت للشارع اعتراضا عليه. أن تحولا مهما في الحالة الدينية المسيحية يتناغم مع الثورة يتمثل في أن أكبر نقد للكنيسة وانحيازها السياسي والتزام رأسها ( البابا شنودة ) في احتكار التمثيل السياسي للمسيحيين يأتي هذه المرة من داخل الأقباط أنفسهم، سواء بعشرات المقالات والبيانات التي تنتقد حصر الصوت المسيحي وراء أسوار الكنيسة وليس في أحزاب وبرامج سياسية، وكذلك تعبئته وراء نظام مرفوض ومكروه من الشعب بما يجعل المسيحيين يصطفون دون إرادتهم في نفس مربع هذا النظام رغم اندلاع الثورة. لقد كانت المشاركة المسيحية في الثورة خصوصا من الشباب، ثورة أخرى على هيمنة الكنيسة حصريا على قرارهم السياسي من ناحية، وعلى فصلهم عن الشارع ضمن معادلة " طائفية " يتم فيها تعبئتهم وراء نظام مبارك لأجل ضمانات وامتيازات لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع فعليا، فضلا عن أنها تعزلهم عن الحركة السياسية وعن مجمل حركة الشعب المصري.

ومثلما تجاوز الشعب المصري المؤسسات الدينية المرتبطة هيكليا بالنظام والداعمة له مباشرة فقد تجاوز أيضا الحالة السلفية بتنوعات خطابها والتي بدت داعمة بوضوح للنظام، أحيانا بترتيب منه أو بتطوع منها وأحيانا أخرى بفعل طبيعية الموقف السلفي الرافض جذريا للثورة بل والرافض للمعارضة السياسية ولمبدأ المعارضة عموما وهو ما سعى النظام لاستثماره جيدا قبيل الثورة وأثنائها.

بالإجماع قاطع السلفيون الثورة، كما كانوا قد قاطعوا من قبلها أي معارضة سياسية، ربط السلفيون باتفاق بين الثورة وبين الفتنة، وهم يقبلون بظلم سبعين عاما ولا يقبلون بالثورة (وصل حكم مبارك لثلاثين عاما وليس سبعين!)، وكانت الثورة لحظة مهمة لظهور هذا التحالف غير الموثق وربما غير المخطط له بين نظام مبارك وبين السلفية، بين السلفية التي يرعاها ويحميها، سلفية ولاة الأمور التي تمثل امتدادا لتيار السلفية الجامية أو المدخلية في العربية السعودية، وبين السلفية التي لا يتردد في البطش بها والتنكيل بأفرادها كل فترة ولأسباب شتى لكنه لا يرى فيها تناقضا أساسيا، طالما كان موقفها السياسي داعما له.

من مفارقات مشهد الثورة المصرية أن النظام الذي كان قد أوقف بث القنوات السلفية قبل فترة وجيزة من الثورة وحملها مسئولية العنف الطائفي وكل أزماته تقريبا بعد أن رعاها زمنا وأفسح لها في قمره الصناعي نيل سات، عاد ليوظف رموزها وشيوخا في حربه ضد الثورة، وهذه المرة على قنواته الرسمية وعلى القنوات الخاصة المرتبطة به هيكليا، فاستضاف عددا كبيرا منهم، محمد حسان ومحمود المصري ومصطفي العدوي...وآخرين، ليطلقوا سيل الدعوات والفتاوي لوقف التظاهر والخروج للشارع وحديث طويل معروف عن نعمة الأمن والأمان وخطر الفتنة وحرمة الخروج، بل ووصل البعض إلى اللمز أو حتى الطعن الصريح في وطنية من يحركون الثورة بل وفي أصل الثورة بالحديث عن أنها مؤامرة صهوينة أمريكية مرة، أو إيرانية مرة أخرى! على ما بين المتآمرين من خلاف. وكان التدخل الانتهازي للقيادة الإيرانية على خط الثورة والادعاء بأنها ثورة إسلامية بل وامتداد للثورة الإسلامية الإيرانية سببا إضافيا للحرب السلفية على الثورة.

اللافت أيضا الترابط بين الخطاب السلفي الوهابي المصري وجذره في السعودية، إن مفردات الخطاب السلفي المصري في تحريم الثورة والطعن في الثوار والتي رأيناها في بيان  جماعة أنصار السنة المحمدية وهي أول جمعية سلفية وهابية في مصر (1926) ضد الثورة، هي نفس مفردات الخطاب السلفي الوهابي السعودي التي جاءت مكثفة وصريحة في حديث مفتي المملكة السعودية الذي خرج وقت احتدام الثورة المصرية ليقطع بأن كل حركات الاحتجاج والثورة في العالم العربي هي مؤامرات غربية على الأمة الإسلامية!

كان مفهوما ومتوقعا موقف هذا القطاع من التيار السلفي الموسوم بالمدخلية والجامية، خاصة وقد كانت له سوابق تؤكد ارتباطه الصريح بالنظام، وكان آخر تعبيراته الفتوي السلفية الشهيرة بوجوب قتل المعارض البارز محمد البرادعي باعتباره من الخوارج! وهي لذات الشخص الذي أفتي بحرمة الترشح في الانتخابات الرئاسية عام 2005 ضد الرئيس مبارك باعتباره ولي أمر المؤمنين!، لكن الذي لم يكن متوقعا موقف التيار السياسي في التيار السلفي وأقصد به مدرسة الدعوة السلفية بالإسكندرية. لقد استقر النظر إلى هذه المدرسة باعتبارها  أقرب للاستقلال عن النظام إن لم يكن معارضته، وكثيرا ما تعرضت للتضييق من النظام وحملات من الاعتقال وصلت قمتها بعد الهجوم الدموي الذي تعرضت كنيسة القديسين ليلة رأس السنة. لقد اعتقل المئات من السلفيين بل وقتل أحدهم تحت وطأة التعذيب (السيد بلال)، ورغم ذلك رفض سلفيو مدرسة الدعوة السلفية، في الإسكندرية وأكثر من عشرة محافظات ينتشرون فيها، الثورة وشددوا على عدم المشاركة فيها، ثم بدأوا حملة التخويف منها ومن تداعياتها سواء ما تعلق بالفتنة والهرج والمرج، وفق التعبيرات التراثية، حتى وصل الأمر لغلق بعض المساجد يوم جمعة الرحيل (منها مسجد أبي حنيفة الشهير في حي بولكلي مثلا)! أو ما تعلق بمخاوف حول الهوية الإسلامية التي يهددها صعود تيارات يختلفون معها، ربما  في إشارة لمحمد البرادعي والجمعية الوطنية للتغيير.

لقد أعلن التيار السلفي رفضه للتظاهرات قبل قيامها بأيام، وأكدت مدرسة الدعوة السلفية في عدة بيانات لها رفض التظاهر بل ونشرت على موقعها (صوت السلف) وفي فتوى لأبرز زعمائها ياسر برهامي لا تبيح التظاهر وتحذر منه، بل وسخر الشيخ شريف الهواري من الثورة ورفض المشاركة فيها ساخرا من ثورات تبدأ بكبيرة (يعني حوادث الانتحار التي سبقتها) بل وتكلم صراحة عن أنها ستوظف لضرب مصر موحيا بأصابع خارجية. وعلى الرغم من تحول هذه المظاهرات إلى ثورة شعبية عارمة ظل التيار السلفي في الإسكندرية يرفض التظاهر، وهو ما ينطبق على مجمل الحالة السلفية في مصر عامة.

ورغم تحسن خطاب هذا التيار كثيرا وتعدل ممارساته التي كانت إيجابية في كثير من النواحي، مثل الدعوة لحماية الممتلكات العامة والخاصة وفي مقدمتها ممتلكات المسيحيين والأجانب وتحريم الاعتداء عليها والقول بوجوب التصدي للبلطجية واللصوص، والمشاركة الميدانية في إنشاء اللجان الشعبية التي صارت المساجد مقارا لعملها، كذلك الفتوى بتحريم الاستغلال ورفع الأسعار أثناء الثورة، بل والتحرك فعليا لإيجاد حلول عملية لمواجهة هذا الاستغلال بتشكيل مجموعات لشراء الخضروات والسلع الغذائية من مصادرها وإعادة بيعها بأسعار رخيصة للأهالي، كل هذا التطور الذي حدث في خطاب التيار السلفي وممارساته، ظل بعيدا عن الدور السياسي أو المشاركة الفعلية (بطبيعتها الاحتجاجية) في الثورة عبر التظاهر، بل وإنهم استبقوا أحداثها بفتح نقاش بعيد تماما عن قضاياها وأهدافها وهو موضوع هوية الدولة المصرية وإثارة القلق من تغيير المادة الثانية في الدستور التي تنص على أن دين الدولة هو الإسلام والشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع، رغم أن هذا الموضوع لم يطرح أصلا في أجندة الثورة.

لقد كان تصاعد الدعم السلفي، المباشر وغير المباشر، للنظام لافتا بحيث صارت السلفية الإسناد الديني الأقوى للنظام في لحظاته الأخيرة، وهو ما يجعلنا نقول أن مستقبل السلفية على المحك، فالأرجح أن فرص السلفية في تثبيت مواقعها كانت ستزداد في حال انكسار الثورة دون سقوط النظام: مرة لأن ذلك كان سيؤكد مقولاتها في رفض الثورة وحتى المعارضة السياسية ومرات لأنها كانت ستكون الأطروحة الأكثر قبولا ودعما من النظام في مواجهة خصومه وفي مواجهة حركة الشارع ومطالبه من أجل الانتقال إلى نظام يحقق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لكن الراجح، أقله حتى كتابة هذه السطور، أن حركة الشارع  الثوري خلال الأيام الماضية قد تجاوزت الحالة السلفية بمكوناتها بما قد يجعلها، في كل الأحوال، محل نقد ومراجعة مستقبلا.

طبعا فإن هذا الرصد يتضمن قدرا كبيرا ومقصودا من التعميم عند الحديث عن التيار السلفي، فلا ينفى تموقع التيار العام في الحالة السلفية ضد الثورة ومع النظام أن ثمة أصوات سلفية كانت في مستوى الثورة، وكان موقفها متقدما بل وجذريا في نقد النظام ربما بأكثر من تيارات ليبرالية ويسارية، وأشير في ذلك وعلى سبيل المثال إلى مجموعة مشروع حزب الإصلاح الذي تبناه سلفيون سياسيون أبرزهم جمال سلطان نهاية التسعينيات من القرن الفائت، كما أن سلفيين كثر شاركوا في التظاهرات والاعتصامات بميدان التحرير لكن كأفراد ينتمون بشكل عام للتيار السلفي دون تأطير، أو كشباب تمردوا على موقف شيوخهم المناهض للثورة.

 بقيت القوى السياسية في التيار الإسلامي، وهي تنقسم بدورها إلى قوى كانت جهادية مسلحة خاضت معارك مع النظام قبل أن تراجع نفسها وتتجاوز العنف، والأخرى سلمية أهمها الإخوان المسلمين.

ليس هناك معطيات كاملة عن التيار الجهادي الذي قام بمراجعات عن العنف وتحول لحركة سلمية، ولم تصدر عنهم بيانات تحدد موقفهم من الثورة باسثتناء بيان لعبود وطارق الزمر القياديين الجهاديين الداعم للثورة. لقد كان موقف الجماعة الإسلامية وبقية التيار الجهادي المتحول عن العنف أميل للتهدئة وإيقاف الثورة، وهذا أمر مفهوم ومتوقع لآلاف من الإسلاميين ما زالت قبضة الأمن وعنفه حاضرا في وعيهم بعد سنوات طويلة قضوها في أسوأ الأوضاع داخل أسوأ السجون، كما شهدوا تصفية المئات منهم خارج حكم القانون.

لكن أبرز مواقف الجماعة الاسلامية كان ممثلا في رفض إسقاط مبارك والاكتفاء بعدم ترشيحه مستقبلا، (ارحموا عزيز قوم) هو عنوان أهم مقالات أبرز قيادييها الذي لم يشأ أن يكملها ويقول (عزيز قوم ذل)، إضافة إلى دعوة لأن تشارك الجماعة في الحوار الوطني رغم أنها كانت مستبعدة تماما قبل الثورة من أي نقاش سياسي ولم تشارك مطلقا في أي فاعلياتها.. وكان لافتا استجابة النظام الفورية ودعوة الجماعة الإسلامية للمشاركة في الحوار وهو ما أتصور انه كان جزءا من استراتيجية استهدفت إدخال فاعلين كثر ومختلفين بقصد تعميم النقاش حول مطالب مختلفة لم تكن تتصل مباشرة بمطالب الثورة، وطرح أجندات متعددة وربما متشرذمة تفتح لإطالة أمد الحوار دون تلبية أي منها.

أما حركة الإخوان المسلمين وبطبيعتها السياسية فلم تسلك بالتأكيد المسار السلفي وتقاطع التظاهرات وفاعليات الثورة، لكنها لم تكن أبدا في طليعتها سواء في إطلاق شرارتها أو قيادتها ميدانيا. لقد تردد الإخوان أياما في الموقف من تظاهرة الثلاثاء 25 يناير التي أطلقت الثورة، وحين حسموا قرارهم إيجابيا كان محددا بالمشاركة الفردية لكوادر الجماعة وقواعدها مثل بقية أفراد الشعب وليس المشاركة بقرار مركزي للجماعة يتبنى التظاهرة ويفرض على أفرادها المشاركة. بل وكان هناك قلق وترقب من المشاركة، بل وتم التأكيد من الجماعة على ضرورة عدم الانسياق وراء خطاب الشباب الثوري خاصة فيما يخص الإساءة للرئيس مبارك بشكل مباشر. وحتى لما نجحت تظاهرة اليوم الأول لم يبادر الإخوان إلى الانغماس كليا في فاعليات الثورة، بل ولحد تظاهرة يوم الجمعة ( جمعة الغضب 28 يناير ) كانت مشاركة مجموعة الشباب الثوري غير المؤطر سياسيا في أحزاب أو تنظيمات متقدمة كثيرا جدا عن الإخوان المسلمين الذين لم تختلف كثيرا عن مشاركة الشارع المصري الذي كان قد هجر السياسة والعمل العام منذ عقود وفقد الأمل في جدواها كما فقد الثقة في كل التنظيمات والأحزاب السياسية.

تعدل موقف الإخوان كثيرا بعد نجاح تظاهرات يوم جمعة الغضب، لقد كان يوم ميلاد جديد للشعب المصري انتقل فيه من شعب معروف بالصبر والصبر الجميل وصبر الجمال، إلى شعب الثورة الغاضب، ومن غضبه وثوريته أخذ الإخوان الجرأة على المبادرة وبدأوا تغيرا متدرجا ولكن مهما في موقفهم. لقد تطورت المشاركة الإخوانية منذ ليلة الجمعة وأخذت شكلا تصاعديا انتهى إلى مشاركة جذرية حاسمة لا رجعة فيها، وكان لهم دور بارز في أهم مفاصلها وخاصة يوم الأربعاء 2 فبراير حين شاركوا بقوة في التصدي للعمليات الوحشية التي قام بها النظام لتصفية المتظاهرين من ميدان التحرير. وأتصور أن لذلك أسبابا كثيرة بعضها يتعلق بوضعية انهيار الدولة وجهازها الأمني القمعي الذي كان الإخوان من ضحاياه وما زالت آثار عنفه وبطشه ماثلة في أذهانهم، وبعضها يتعلق أيضا بحجم الغطاء الشعبي الكثيف الذي لا يجعل تيارا بعينه يشعر أنه قد يدفع الثمن منفردا كما تكرر كثيرا مع الإخوان، هناك أيضا المسلكية البرجماتية التي لا تقبل بأن يغيب الإخوان عن هذا الحدث الذي يؤذن بميلاد لدولة مصرية جديدة يبحث فيها الإخوان عن مكان وشرعية، لكن الأهم بنظري أن الوضع وصل إلى مرحلة اللا عودة، فثمة يقين كان يثير الفزع لدى الإخوان، أكثر من غيرهم، بأنه إذا فشلت الثورة فستكون رؤوسهم الحصاد المر!

ولم تكن الطبيعة البراغماتية لدى الحركة غائبة تماما عن ساحة الموقف الإخواني من الثورة لاحقا؛ فرغم استمرار نزولهم للشارع وعدم الانسحاب منه، فإن تحولا لافتا في موقفهم طرأ مساء السبت 5 فبراير، حين قبلوا بالمشاركة في الحوار الوطني قبل رحيل الرئيس مبارك، لقد قال الإخوان أنهم سيتحاورون مع النظام ومن ضمن الحوار سيكون الحوار على رحيله، ربما كان ذلك إخراجا لطيفا لقرار الحوار لكن المؤكد أن الإخوان كانوا اقرب للتنازل فعليا عن مطلب الرحيل لو لم يسقط النظام، وأنهم كانوا سيدخلون فعلا في سيرورة الحوار وفق ما كان سيطرحه هذا الأخير.

ثمة شكوك تقليدية في أن الإخوان يظلون دوما أقرب للنظام حتى في خيالهم السياسي، وأنهم دائما راغبون أو أقله قابلون في القرب منه حتى وهم ينتفضون ضده أو على الأدق يشاركون الشارع في الانتفاضة ضد نظام عجوز لكنه قمعي وتسلطي ودموي. ثمة ضغوط كبيرة تحكم قرار الإخوان في كل ما يتصل بالدولة، أهمها الرغبة العارمة في تجاوز المنع القانوني الذي صار أقرب لتهمة يرفعها دوما في وجههم، هناك أيضا الرغبة ربما المتسرعة في ترجمة مكاسب هذه الثورة في نقلة لوضعية الجماعة قانونيا وسياسيا وفي الحياة العامة محليا ودوليا حين تمت دعوتهم للحوار الوطني مع نائب الرئيس السابق على قدم المساواة مع الأحزاب الرسمية. و ربما كان المحرك الأكبر للإخوان هو العقلية وربما النفسية التي كانوا يتعاطون بها مع الثورة.

لقد بدأ الإخوان مشاركتهم في الثورة بنفسية ما قبل الثورة، وظلوا يرسمون مسارهم السياسي ويحددون خياراتهم السياسية في أثنائها بعقلية ما قبل الثورة، كانوا يتصرفون وقبل حتى أن يغادروا مواقع الثورة، بنفس العقلية والنفسية التي كانوا عليها قبل 25 يناير .

ثمة مشهد رأيته في الإسكندرية يمكن أن يشرح ما أقول، كان المتظاهرون أكثر من مليون ونصف يمثلون ربع ساكنة الإسكندرية، طافوا كل الشوارع وملئوا كل الفضاءات وتحركوا وثاروا وهتفوا وصرخوا وطالبوا وتفاعل معهم الناس، وكان الإخوان مثل بقية الشعب جزءا من الثورة، قام خطيبهم وملأ الدنيا خطابة وثورة ثم لما أعياه التعب قام فتلا الدعاء التقليدي: سبحانك اللهم وبحمدك نشهد إلا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وأكمل بتلاوة سورة العصر..ودعا الناس للانصراف راشدين!

الزعيم الإخواني، حتى وهو مخلص في الالتحام بالثورة، لم يزل يفكر بنفس العقلية الإخوانية التقليدية التي يبدو أنها لم تغيرها الثورة، لا مانع لديه أن يقف ليخطب بالساعات في جموع لم يجمعها ولم يحلم يوما باجتماعها، ثم إذا شعر بالتعب وبأن التظاهرة زاد وقتها وأنه لا طاقة له للاستمرار لا يجد مانعا أن يدعوها للرحيل دون أن يسأل نفسه فضلا عن أن يسألها: هل ما زال لدي الناس طاقة وصبر للاستمرار؟ وهل يجب أن تنصرف الجماهير لأنه تعب ولم يعد لديه ما يقوله؟  وهل لابد أن يكون في حيازته دليل الثورة وحركتها ومطالبها؟

ربما كانت هذه فعلا بعض مظاهر أزمة من يتعاملون مع الثورة  بنفسية ما قبل الثورة. ويفكرون للثورة بعقلية حددت سقف الثورة ربما قبل أن تحلم بها، وهو سقف لم يكن يقبل بأقل من أن يسقط النظام برمته كما كان قد حددها المسار المتسارع الذي عرفته الثورة نفسها.

 لم تخل فاعليات الثورة المصرية وتظاهراتها التي اجتاحت كل شوارعها إذن من استعراض إخواني مفتعل مرة وتلقائي مرات، لكن مجمل المشاركة الإخوانية لم تخالف مجرى نهر الشارع المصري الواسع ولم تتميز عنه إلا بمقتضيات الاختلاف والتمايز التاريخي في السمت الظاهر والزي وبعض التيمات في التعبيرات والسلوك.

فالمثير للانتباه هو تجاوز الشارع لمثيرات الفرز والانقسام مع الحركة الإسلامية بل وابتلاعها وهضمها ضمن مسار الثورة دون حساسيات إلا ما قد يفكك إجماع الشارع على الثورة. مواقف أتذكرها في مسيرة يوم جمعة الغضب الذي امتد بي مسافة 16 كيلو مترا سيرا على الأقدام ولكل منها دلالة واضحة في فهم موقع الإسلاميين فيما يجري من وقائع الثورة المصرية، الأول أنه لما انتظم الشارع لصلاة المغرب وبدأ المتظاهرون الصلاة حاول بعض الإسلاميين فرض منطقهم من خلال أراء فقهية لا تجيز الصلاة بالأحذية أو ضمن صفوف تخترق بعضها النساء والفتيات، فما كان إلا أن تلقى ردا صارما ولكن هادئ بأن ينشغل بنفسه وحسب!، كما أنه ساعة الصلاة توقف المسيحيون وبعض المسلمين ممن لا يصلون للراحة والتدخين وتنظيم حركة السير وجلب المياة والغذاء للجميع، أما الشعارات التي أنتجها المتظاهرون من وحي اللحظة والحدث فكانت ليس فقط غارقة في الوطنية المصرية الجامعة لكل المصريين والمطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بل وكذلك متجاوزة لمحظورات طالما حرص الإسلاميون على تجنبها بل وشدد بعضهم في تحريمها، فرفع المتظاهرون شعارات من مثل ( تحيا الهلال مع الصليب ) و( مسلم مسيحي كلنا لمصر )..أما الأكثر دلالة فهو أن الإسكندرية لم يحدث فيها حالة احتقان طائفي واحدة منذ بداية الثورة، كنيسة القديسين التي كان آخر ضحايا الطائفية تولى حمايتها شباب مسلمون بعد أن فرت أجهزة الأمن وتخلت عن مسئوليتها، ثم لم تعد هناك حاجة أصلا لحمايتها، إن آلاف الكنائس في مصر وليس الإسكندرية وحدها لا تحتاج لحماية من أحد بعدما كانت أشبه بثكنات لأجهزة الأمن التي لا تفارقها.

بالطبع يمكن أن يلتبس الأمر على من يتابع المشهد من خارجه، فيحسب أن مظاهر اللحية والحجاب وربما النقاب تعكس تمثيلا سياسيا للإسلاميين، وربما يضاف لذلك مظاهر أداء المتظاهرين للصلوات الجامعة في الشوارع والميادين فضلا عن الأدعية وبعض الشعارات الدينية، لكن أدنى تدقيق يؤكد أن نقل الصورة هكذا غير دقيق في فهم ما يجري وصلة الإسلاميين به وربما كان مقصودا للتوظيف السياسي خصوصا في تحديد شكل الموقف الدولي من الثورة المصرية.

إن المظاهر الدينية في مصر هي جزء من طبيعة الشخصية المصرية، للمسلمين والمسيحيين أيضا، ولا يمكن إعطاءه أي حمولة أيدولوجية أو سياسية، إن المظاهر والتعبيرات الدينية حتى في كثافتها لا يمكن نقلها مجانا لرصيد تيار سياسي ديني بعينه خاصة إذا ما تذكرنا أن الشعب المصري هو الأكثر تدينا في العالم وفق الدراسة الاستقصائية المشهورة لمعهد جالوب الأمريكي، إن اللص في مصر يبدأ سرقته وهو يلهج بالتسمية ودعوة رب العالمين أن يسترها، فيما يؤدي الشيوعي المصري صلاة الجمعة  وترتدي زوجته الحجاب ولا أحب لديه من أن يختم حياته بزيارة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

الحجاب في مصر يخترق كل الشرائح الاجتماعية بمن فيها النخب السياسية والعسكرية والثقافية بل والفنية حتى عرفنا ظاهرة الفنانات الملتزمات، كما أن النقاب يتقاطع فيه الديني بالثقافي والاجتماعي ولا يعكس بالضرورة توجها أيدولوجيا أو سياسيا، وينطبق الأمر على اللحية، لذلك كان حضور هذه المظاهر كثيفا في التظاهرات رغم مقاطعة التيار السلفي لها، وهو أمر بالغ الدلالة على أنها لا تعكس توجها سياسيا أو أيدولوجيا على عكس ما حاولت بعض وسائل الإعلام الغربية والعربية المخوفة من الثورة نقله للجماهير في إثارة مراوغة، ومباشرة أحيانا، للمقارنة بين الثورة المصرية وبين الثورة الإسلامية الإيرانية!

 أتصور أن واحدة من نتائج الثورة العظيمة أنها وضعت الحركة الإسلامية في وضعها الحقيقي وقدرت بإحكام وزنهم الدقيق في الشارع المصري، هم قوة حقيقية ومعتبرة، لكنها ليست الوحيدة، قد يكون لها تأثير وفاعلية لكنها مشروطة بالاستجابة لمشاعر الناس ومطالبهم الحقيقية بعد أن ملّوا رطانة الأيدلوجيا ولعبة الصراع على الشارع عبر مجرد شعارات أو من خلال قضايا مفتعلة.  الجميل أن الفرز لم يحدث حتى كتابة هذه السطور، الكل يؤجل الفرز لما بعد تحقيق أهداف الثورة، وساعتها سيحدث لا شك، ولكن ساعتها سيكون المشهد مختلف تماما، بل أعتقد بيقين أن المستقبل سيكون مختلفا جذريا بحيث لا تصلح في فهمه أي من أدوات التحليل التي كنا نعتمد عليها في دراسة الحالة الإسلامية. إنها ثورة.

إن الثورة المصرية ليست هي الثورة الإسلامية في إيران، رغم أن التدين لم يفارقها لحظة، بل يمكن القول أنها ليست حتى استعادة لثورة يوليو التي قامت قبل ستين عاما، فهي لا ترفع مطالب قومية ينفرد بها المصريون وإنما تلتئم ضمن مطالب إنسانية عالمية: الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.