القاهرة، المدينة المنتصرة، 11 شباط/فبراير 2011

Mohammed BAMYEH

المترجم : SAADA Mahmoud


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

لم يسبق أن جمعت ثورة بدا أنها تفتقر إلى الآفاق هذا الزخم السريع وغير المتوقع أبدا. فقد افتقرت الثورة المصرية التي اندلعت في 25 كانون الثاني/يناير إلى القيادة وكان تنظيمها ضعيفا؛ إذ جاءت أحداثها الأساسية، التي وقعت يوم الجمعة الموافق 28 كانون الثاني/يناير، في يوم كانت فيه جميع وسائل تكنولوجيا الاتصالات، بما فيا الإنترنت والهواتف، ممنوعة. وقد اندلعت في بلد كبير اشتهر بحياة سياسية هادئة وإرث طويل جدا من الاستمرارية السلطوية وجهاز قمع يُحسد عليه يتألف من أكثر من مليوني عنصر. ولكن في ذلك اليوم تبخر وفي يوم واحد نظامُ حسني مبارك المترسخ منذ 30 عاما والذي بدا سرمديا، وهو النظام الوحيد الذي عرفته غالبية المتظاهرين الساحقة.

إلا أن النظام واصل الصراع وكانت الحكومة من الناحية العملية شبه موجودة. فقد أقفِلت جميع الوزارات والمكاتب الحكومية وأحرقت جميع مراكز الشرطة تقريبا في 28 كانون الثاني/يناير. وباستثناء الجيش، اختفي جميع موظفي الأمن. وبعد أسبوع على اندلاع الانتفاضة، تجرأ عدد قليل من رجال الشرطة بالخروج ثانية إلى الشارع. وتولت اللجان الشعبية الأمن في الأحياء. رأيت التعبير عن الوطنية في كل مكان، إذ عمّ شعور بالفخر في رؤية الأناس الذين لم يكونوا يعرفون بعضهم بعضا قد تمكنوا من العمل معا، عمدا وبقصد محدد. وفي غضون الأيام العشرة التي عقبت الانطلاقة، خرج الملايين إلى الشوارع في جميع أنحاء مصر تقريبا. وكان بإمكان المرء أن يرى من الناحية التجريبية كيف برزت الأخلاق النبيلة لاسيما مع اختفاء الحكومة، ومن هذه الأخلاق الحرص على المجتمع والتضامن والعناية بالآخرين واحترام كرامة الجميع والشعور بالمسؤولية الشخصية تجاه الجميع.

ستكون هذه الثورة، التي تواصل انتشارها، بلا شك حدثا تكوينيا في حياة ملايين الشباب الذين قادوها في مصر، ولعلها تكون كذلك بالنسبة لملايين أكثر من الشباب الذين امتثلوا بها على امتداد العالم العربي. من الواضح أنها أنتجت جيلا بمشهد عظيم من النوع الذي كان قد شكّل الوعي السياسي لكل الأجيال التي سبقتهم في التاريخ العربي المعاصر. كما اعتُبرت جميع تجارب الأجيال الماضية التكوينية المشتركة تلك لحظاتٍ وطنيةً عظيمة، سواء كانت هزائم كارثية أو انتصارات ضد قوى الاستعمار وتحالفاته.

كما ستترك هذه الثورة آثارا عميقة في النسيج الاجتماعي والروح الاجتماعي لمدة طويلة، ولكن بطرق تتخطى الشباب. شكّل الشباب القوة الدافعة للثورة في الأيام الأولى، ولكن سرعان ما أصبحت الثورة وطنية بكل ما في الكلمة من معنى. فقد رأيت على مر الأيام مزيجا سكانيا متزايد العدد في المظاهرات، حيث تفاعل الناس من جميع الشرائح العمرية والطبقات الاجتماعية، رجالا ونساء، ومسلمين ومسيحيين، وسكان المدن والفلاحين، أي عمليا جميع قطاعات المجتمع، في أعداد كبيرة وبإصرار قلّما شهدنا له مثيلا.

لقد تحدث جميع من تكلمت إليهم عن مواضيع تناولت التحول، فقد أبرزوا شعورا بالعجب من اكتشافهم جارهم ثانية وعدم علمهم أبدا قبل ذلك الحدث بأنهم يعيشون في "مجتمع" أو معنى هذه الكلمة وكيف تحول من بدا بالأمس بعيدا جدا إلى قريب جدا اليوم. لقد شاهدت فلاحات يقدمن البصل إلى المتظاهرين لمساعدتهم في الشفاء من الاعتداءات بالغاز المسيل للدموع، وشباب يثنون آخرين عن الأعمال التخريبية، والمتحف الوطني يحميه درع بشري من المتظاهرين من النهب والحريق، ومتظاهرين يحمون بلطجية قُبض عليهم إثر اعتدائهم على المتظاهرين من أذية متظاهرين آخرين، وغيرها من الحالات التي لا تحصى والتي تظهر كياسة كريمة وسط الدمار والفوضى السائدين.

كما شاهدت كيف تقلبت المظاهرات بين مشاهد عراك وحلقات نقاش وكيف قدمت مشهدا متجددا أمكن فيه للكل رؤية إجماع قطاعات متنوعة من الحياة الاجتماعية على فكرة إسقاط النظام. وبينما سلطت وسائط الإعلام الضوء على الفوضى غير المسيطر عليها والآثار الإقليمية وطيف الإسلام في السلطة، كشف منظور النملة عن الخروج النسبي لجميع الاعتبارات الآنفة الذكر عن الصدد. وإذ أخذت الثورة وقتا أكثر فأكثر من أجل تحقيق مهمة إسقاط النظام، بدأ المتظاهرون أنفسهم قضاء وقت أكبر في إبراز إنجازات أخرى كبروز آداب جديدة وسط الفوضى نفسها. وقد برهنت هذه الآداب عن نفسها في حس مشترك وواسع الانتشار بالمسؤولية الشخصية تجاه الحضارة، ومن مظاهر ذلك تنظيف الشوارع الطوعي والوقوف في الطابور والاختفاء الكامل للتحرش العلني بالنساء وإعادة المسروقات والموجودات وغيرها من القرارات التي لا تحصى ذات الطابع الأخلاقي والتي جرت العادة في السابق على تجاهلها أو تركها لتدبير الغير.

هناك عدد من الملامح الأساسية المتصلة بهذا الحدث الرائع وهي برأيي أساسية ليس لفهم الثورة المصرية فحسب بل أيضا الانتفاضات العربية الناشئة في العام 2011. وتضم هذه الملامح قوة القوى الهامشية، والعفوية بوصفها فن التحريك، والطابع المدني بوصفه المضاد الأخلاقي الواعي لهمجية الدولة، وتقديم أولوية المطالب السياسية على جميع الأولويات الأخرى بما فيها الاقتصادية، وأخيرا الصمم (عدم الإصغاء) الأوتوقراطي أي عدم استعداد النخب الحاكمة سماع الأصداء المبكرة معتبرة أنها ليست سوى ضوضاء عامة مبهمة يمكن جعلها ثانية غير مسموعة من خلال الوسائل المعهودة.

أولا، الهامشية تعني أن الثورة بدأت في الهوامش. ففي تونس، بدأت بهذه الطريقة في المناطق الهامشية ومنها هاجرت إلى العاصمة. ومن تونس وهي نفسها هامشية نسبيا في سياق العالم العربي الأوسع سافرت إلى مصر. من الواضح أن الوضع في كل بلد عربي مختلف من حيث ما وصل إليه في الوقت الراهن وأن المؤشرات الاقتصادية ودرجة التحرير لها علاقة بهذا الأمر، ولكنني صُدمت من وعي الشباب المصري بالنموذج التونسي الذي سبقهم بأسبوعين فقط. وذكر لي العديد من المتظاهرين فخرهم في ما بدا أنهم حققوا في بضعة أيام ما احتاج التونسيون شهرا لتحقيقه.

الهامشية بدت أنها عامل مهم في مصر أيضا. وبينما انصب تركيز الكثير من وسائط الإعلام على ميدان التحرير في وسط القاهرة حيث كنت أذهب كل يوم، كان الحضور الكبير نفسه هناك دلالة على وجود إمكانية أصبحت فجأة جلية في 25 كانون الثاني/شباط عندما اندلعت مظاهرات كبيرة في 12 محافظة من محافظات مصر. ما كنّا نتصور الثورة ممكنة أبدا لو أنها اقتصرت على القاهرة. وفي الواقع كانت أشد لحظاتها قوةً في الأيام الأولى، عندما بدا بالفعل أننا بصدد ثورة، في أماكن أكثر هامشية كالسويس. ومن شأن التصور الجماعي بأن الثورة قد وقعت في الهوامش، حيث توقع حدوثها هناك غاية في الضعف، أن منح الجميع الثقة الضرورية لإدراك أن ذلك ممكن حدوثه في أي مكان.

ثانيا، حافظت الثورة على نفسها من خلال سمة العفوية بكل ما في الكلمة من معنى، أي أنه لم يكن لها تنظيم مستمر، بل إن الاحتياجات التنظيمية – كإدارة التواصل وما ينبغي فعله في اليوم التالي وما هو الاسم الذي سيُطلق على ذلك اليوم وكيفية إخلاء الجرحى وصد هجمات البلطجية وحتى كيفية صياغة المطالب – برزت مباشرة في الميدان وواصلت تطورها استجابة للأوضاع الجديدة. وبالإضافة إلى ذلك، افتقرت الثورة من البداية إلى النهاية إلى قيادة معترف بها، وتلك حقيقة أقلقت معظم المراقبين ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة للمشاركين. فقد شاهدت مناقشات عديدة رفض فيها المشاركون أن تمثلهم أي مجموعة أو أي قائد كان، تماما كما رفضوا المطالب الداعية إلى اختيار "ممثلين" كي تتمكن جهة ما من التحدث إليهم كالأزهر أو الحكومة. وعندما طلبت الحكومة تعيين متحدث باسم هذا العصيان، عين كثير من المتظاهرين بتهكمٍ أحد المختفين أملاً في أن تعيينه على هذا النحو قد يعجل ظهوره ثانية. والجملة الشائعة التي سمعتها هي أن "الشعب" هو من يقرر. وبدا أن فكرة الأخوُّة الشعبية قد تكون الآن إما كبيرة لدرجة يصعب أن تمثلها أي سلطة أو قيادة بعينها أو أن تمثيلا من هذا القبيل من شأنه أن يميِّع التضمين العميق وشبه الروحي لمفهوم "الشعب" بوصفه مجموعٌ حرِك.

كما كانت العفوية عنصرا أساسيا لأنها جعلت من الصعب توقع الثورة أو السيطرة عليها ولأنها يسرت مستوى غير عادي من الدينامية والخفة طالما بقيت عدة ملايين ملتزمة تماما بالأولوية الجماعية الرامية إلى إسقاط النظام المتمثل بالرئيس. ولكن بدا أيضا أن العفوية لعبت دورا علاجيا وليس مجرد دور تنظيمي أو أيديولوجي. وقد ذكر لي أكثر من مشارك كيف كانت الثورة محرِّرة من الناحية النفسية لأن كل القمع الذي كانوا يستبطنونه بوصفه نقدا ذاتيا وإدراكا للضعف الفطري قد انعكس في المُناخ الثوري إلى الخارج على شكل طاقة إيجابية واكتشاف لقيمة الذات الحقيقية، بدلا من الارتباط السطحي بالآخرين، واكتشاف للقوة غير المحدودة اللازمة لتغيير الحقيقة المجمّدة. لقد سمعت المصطلح "إيقاظ" يُستخدم دائما لوصف الحركة في كليّتها على أنها نوع من الخروج العفوي من ظرف السبات العميق، الأمر الذي لم يستطع أي برنامج حزبي أن يحركه من قبل.

وعلاوة على ذلك، كانت العفوية السبب كما يبدو وراء رفع سقف أهداف الانتفاضة من مطالب بإصلاح أساسي في 25 كانون الثاني/يناير إلى تغيير النظام بأكمله بعد ذلك بثلاثة أيام فإلى رفض جميع التنازلات التي قدّمها النظام عندما كان مبارك في منصبه فإلى محاكمة مبارك. لم تكن تنحية مبارك في الواقع مطلبا جديا بالنسبة للجميع في 25 كانون الثاني/يناير، فحينها كانت الشعارات ذات الصلة تدين إمكانية ترشح ابنه وتنادي مبارك نفسه بعدم الترشح ثانية ليس إلا. ومع نهاية يوم 28 كانون الثاني/يناير، أصبحت تنحية مبارك عن منصبه مبدءا ثابتا، وفي الحقيقة بدا ذلك حينها على وشك الحدوث. وهنا يكتشف المرء الأمور التي كانت ممكنة عبر العفوية أكثر منه عبر برنامج محدد أو تنظيم أو قيادة. وعليه أصبحت العفوية بوصلة الثورة والطريقة التي وجدت من خلالها طريقها إلى ما تبين أنها وجهتها النهائية.

وبذلك تكون قد برهنت على صعوبة إقناع المتظاهرين بالتخلي عن سمة ثورتهم العفوية، خاصة أن تلك العفوية أثبتت قوة هذه الثورة وإرادتها وغرست الثقة أكثر من أي نموذج آخر لأي حركة. أدت هذه الثقة، كما أرى، إلى تعزيز استعداد المتظاهرين للتضحية والاستشهاد. كما بدت هذه العفوية أيضاً أنها طريقةً أدخلت من خلالها السمة الاحتفالية للحياة الاجتماعية إلى مسرح الثورة بوصفها طريقةً للتعبير عن الحرية والمبادرة، فعلى سبيل المثال لم أشاهد بين آلاف الشعارات التي رفعت في المظاهرات أي شعار أو يافطة تقليدية كتلك التي ترفع عادةً في المظاهرات التي تنظم تأييداً للحكومات. بدت معظم اليافطات مصممة يدوياً، مكتوبةً أو مرسومةً على جميع المواد والأشياء وكان يعرضها بكل فخر واعتزاز مصمموها متمنين على الآخرين تصويرها. بالإضافة إلى ذلك، ثبتت فائدة العفوية في عملية التشبيك بشكل كبير إذ أن الثورة أصبحت امتدادا لسمة العفوية للحياة اليومية حيث الحاجة للتخطيط التفصيلي أو إمكانية ذلك كانت ضئيلة وحيث اعتاد معظم الناس على التشبيك العشوائي في خضم  عدم القدرة على التوقع وهو الأمر السائد في الأوقات العادية.

 لقد منحت العفويةُ الثورةَ عناصر نجاح كثيرة، وذلك يعني أن أي عملية انتقال لنظام جديد ستكون من تصميم القوى الموجودة داخل النظام والمعارضة المنظمة لأن الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع لا يملكون قوة واحدة قادرة على تمثيلهم. غير أن معظم المتظاهرين الذين تحدثت إليه بدا عليهم أنهم غير آبهين كثيرا بهذه التفاصيل، بل كان شغلهم الشاغل تحقيق المطالب الرئيسية التي بدت مضمونة أكثر مهما كانت طبيعة النظام اللاحق. وبعد مرور أسبوع على هذه الثورة، تبلورت تلك المطالب بشكل جلي على النحو الآتي: تنحية الدكتاتور وحل البرلمان وانتخاب برلمان جديد وتعديل الدستور لتقليص صلاحيات الرئيس وضمان مزيد من الحريات وإلغاء حالة الطوارئ ومحاكمة المسؤولين الفاسدين إضافةً إلى محاكمة كل الذين أصدروا أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين.

ثالثاً، تجلى إحلال الأخلاق المدنية محل المرجعيات الدينية وظهرت هذه القضية وكأن هذه الأخلاق كونيةً وتفرض ذاتها على المشهد. ويبدو هذا المشهد أكثر مفاجئةً من الحالة التونسية إذ أن المعارضة الدينية في مصر كانت دوما قوية وقد بلغت عمليا كافة قطاعات الحياة. فقد انضمت حركة الأخوان المسلمين إلى الاحتجاجات بعد انطلاقها، وبدت كباقي القوى السياسية المنظمة غير قادرة على توجيه التطورات بالقدر الذي سعت فيه الحكومة (مع حلفائها الإقليميين) إلى تضخيم دورها.

يرتبط ذلك جوهريا، حسب اعتقادي، بالعنصرين آنفي الذكر أي العفوية والهامشية. فقد استلزمت هاتين العمليتين تسييس الشرائح الأخرى غير المشتركة واستجابتا أيضا إلى المطالب الكبيرة التي لم تحتاج إلى لغة دينية تحديداً. وفي الحقيقة، بدا الدين كأنه عائق لاسيما في ضوء التوترات الطائفية التي ظهرت مؤخراً في مصر وقد خالف سمة الثورة الناشئة كونها بالأساس تفرق الصفوف في المجتمع بما في ذلك صفوف الدين والتدين. لقد صلى الكثيرون فعلا في الساحات العامة، لكنني لم أر أي شخص يتعرض للضغط أو حتى طُلب منه الانضمام إلى أي جماعة بالرغم من النبرات الروحانية المرتفعة التي سادت بيئة مشبعة بالمشاعر العالية وعُززت على الدوام بحكايات الشهادة والظلم والعنف.

كما كان الحال في الثورة التونسية، فقد تفجرت الثورة المصرية كزلزال أخلاقي جماعي، حيث كانت المطالب المركزية مطالب أساسية تجمعت حول احترام المواطن والكرامة والحق الطبيعي في المشاركة في صناعة النظام الذي حكم الأفراد. وبينما عُبّر عن هذه المبادئ ذاتها في السابق باستخدام اللغة الدينية، يُعبر عنها اليوم دون أدنى درجة من الغموض ودون الحاجة إلى سلطة دينية مقدسة تسوغ هذه المبادئ. لقد شعرت بمغزى هذا التحول عندما كان مشاركون من الإخوان المسلمين أنفسهم يهتفون في وقت ما مع جميع المشاركين بشعار الدولة (المدنية) في تميز صريح عن الخيارات الأخرى الممكنة سواء الدولة (الدينية) أو (العسكرية).

رابعاً. حدث تطور كبير بعد 28 كانون الثاني/يناير عندما بدأت المطالب السياسية الراديكالية بالظهور إلى السطح متجاوزةً جميع التظلمات بما فيها تلك المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية المقيتة. فقد أصبحت المطالب السياسية أكثر وضوحاً من أي مطالب أخرى واتفق الجميع عليها واشتركوا بالافتراض القائل بأن جميع المشاكل الأخرى يمكن التفاوض بشأنها بشكل أفضل حالما يقام نظام سياسي مسؤول. فالحديث عن محاربة الفساد، وهو موضوع مركزي، اعتُبر طريقة تُرجمت من خلالها جميع التظلمات الاقتصادية في لغة سياسية مفهومة. وعلى أي حال، عبرت هذه الحالة عن الواقع لأن النظام السياسي أصبح جوهريا نظام سرقة يعمل في وضح النهار. فقبل تفجر الثورة بشهور، كان كل فرد عمليا  لديه قصة يرويها إلي عن الفساد المتباهى به للنخبة السياسية والاقتصادية المنتفعة من النظام. وقد مالت هذه النخبة إلى الالتفاف حول ابن مبارك. وكان بعض أعضاء هذه العصبة، كما ورد، وراء تجنيد البلطجية الذين أرهبوا المتظاهرين طوال يومين كاملين في 2 و3 شباط/فبراير.

خامساً، كبقية بلدان الوطن العربي، كان الصمم (عدم الإصغاء) الأوتوقراطي عاملا رئيسيا مساعدا. فقد خزّنت النخب الحاكمة بنفسها على مدى سنوات طوال وقود الامتعاض الكبير الدفين الذي أشعل البركان. إن البقاء في الحكم لمدة طويلة وغياب معارضة حقيقية أفقدت هؤلاء الأشخاص البوصلة ولم يعودوا قادرين على التعرف على شعبهم أو الحديث إليه. ولم يشعروا بإنذارات الثورة قبل تفجرها، وعندما تفجرت لم يسمعوا دويها إلا بعد حين، وكأنهم يستمعون إلى ضجيج مبهم. إن طريقة الاتصال الأوتوقراطي التي تسير باتجاه واحد لم تيسر تغذية راجعة ولم تستفد من أي توجيهات معتبرةً ما يحصل مجرد حالة إزعاج غير منظمة. واتضح أثناء فترة الثورة صمم سدة الحكم من خلال بطء استجابة الحكومة لما يحصل والتردد حياله. ففي اليوم الذي عقب مظاهرات 25 كانون الثاني/يناير، استخف محررو الصحف الحكومية بالأحداث. وفي 28 كانون الثاني/يناير عندما جابت المظاهرات جميع أنحاء مصر وصدرت عدة تصريحات عن قادة دول عديدة في العالم عبروا فيها عن قلقهم إزاء الأحداث، بقي صمت الحكومة المصرية مطبقاً إلى أن ألقى مبارك خطابا في منتصف الليل صرح فيه ما خالف توقعات جميع الأطراف. واعتقد أنه قدّم تنازلات كبيرة، ولو أنه أستشار أي مستشار استخباراتي في الموضوع لقال له بأنه خطاب استفزازي، وكانت النتيجة أياما أخرى من الاحتجاجات. في الأول من شباط/فبراير، ألقى خطاباً آخر معتقداً ثانيةً أنه قدم تنازلات كبرى، إلا أن الكثير من المتظاهرين تلقوه وللمرة الثانية على أنه أعلى درجات التعجرف والخيلاء. وفي اليوم الأخير الذي شغل فيه منصبه أي 10 شباط/فبراير، أشعل نار الغضب في قلوب جميع المواطنين عندما صدم الجميع بنقله صلاحياته مؤقتاً لنائبة، الذي أصبح أيضا في حينها شخصا غير مرغوب به في أعين المصريين، بدلاً من تقديم استقالته التي توقعها الجميع. فخرجت جماهير غفيرة إلى الشوارع ووصلت إلى القصر الرئاسي في 11 شباط/فبراير، وأصبح الشعب أكثر إصراراً على التخلص من رجل لم يكن مدركاً لإرادة شعبه القوية والواضحة.

بمعنى أنه كان دائما يستجيب للأمور بالطريقة التي يفهمها وهي أنها ليست أكثر من حالة إزعاج صادر عن جماهير عادية وأنه يمكن تهدئة هذا الإزعاج بأي تسوية. اعتادت الأنظمة الأوتوقراطية العربية على معاملة شعوبها بنوع من الازدراء أو التعجرف، ولم تتقن أي شكل آخر من أشكال الاتصال (رغم أن رئيس الوزراء الجديد أحمد شفيق بذل ما بوسعه في فنون الاتصال الأخرى). من الواضح أن الصمم الأوتوقراطي شكّل عاملاً رئيسياً في تصعيد الثورة. فقد اعتقد عدد كبير من المتظاهرين الذين تحدثت إليهم بأن حل الأزمة كان ممكناً لو أن ما أدلى به مبارك في 28 كانون الثاني/يناير قاله يوم 25 أي حينما لم يصرح بشيء. كما لو أنه صرح في 28 كانون الثاني/يناير بما أدلى به في الأول من شباط/فبراير لحُلت الأزمة أيضا. وما جاء في خطابه في 10 شباط/فبراير أعزى بعدم إمكانية وجود مخرج مشرف للرجل الذي بدا أقوى رجل على مستوى الشرق الأوسط قبل أسبوعين فقط.

وعندما فشلت جميع هذه التنازلات في إطفاء نار الأزمة، لم يكن في جعبة من عينهم مبارك حديثا حجج مقنعة يتذرعون بها إزاء سبب رغبته في البقاء في الحكم لبضعة أشهر أخر في وجه ثورة مصممة لم تتحدى في حقيقة الأمر عناصر أخرى كثيرة من عناصر النظام. في 3 شباط/فبراير، قال رئيس وزرائه الجديد بأن ثقافة مصر العامة لا تقبل لقائد أن يرحل مجرداً من كرامته، وقدم مثالاً على ذلك التحية التي أداها الضباط الأحرار للملك فاروق الذي أجبروه على الرحيل عام 1952. وفي نفس اليوم، عبّر نائبه الجديد عن نفس الرأي قائلاً أن الثقافة المصرية ترفض احتقار شخصية الأب المتمثلة في مبارك بالنسبة للشعب المصري وذلك في لحظة نسيان تمر فيها الثورة. وأكد الرئيس نفسه في نفس اليوم أيضاً بأنه لا يمكنه تقديم استقالته لما ستشهده البلاد من فوضى غير مدركٍ على نحو مدهش بأن البلد قد وصل إلى تلك النقطة فعلا.

في حال إصغاء الأنظمة الأوتوقراطية إلى شعوبها، يعرف جميع السياسيون الناجحون بما فيهم السياسيون البارعون في التلاعب أن من بين فنون المناورة استباق الخطوة التالية للجمهور أو العدو للوصول إلى النقطة المطلوبة قبل فوات الأوان. وما حصل في مصر هو العكس تماماً، فالأوتوقراطية المتبلدة التي لم تعرف يوماً سجالاً جدياً كانت غير مدركة لماهية عدوها الذي أصبح في هذه الحالة متمثلاً في أغلبية أبناء الشعب. ففي 2 شباط/فبراير، لم يجد بعض أنصار مبارك سبيلاً أفضل من تعبئة البلطجية ليهاجموا المتظاهرين في ميدان التحرير مستخدمين الخيول والجمال عاكسين بذلك شخصية النظام القديمة أي النظام القادم من حقبة ماضية وليس له علاقة بما هو حاصل الآن. وكأن انقطاعا زمنيا قد حصل فأصبحنا نشاهد معركة تعود إلى لقرن الثاني عشر. من منظوري في الحشد، رأيتهم وقد اخترقوا الحشد ركبانا ثم كأنهم قد ابتُلعوا في الحشد الذي أعادهم إلى العصور الماضية. ولكن ما حصل هو العكس، فاللجان الشعبية بأسلحتها البدائية في الأحياء ومع غياب حالة الوهم بالكامل، مثلت حالة المجتمع التي أنتجتها الثورة، أي جسم واحد يتحكم بحاضره بنفسه ويتعلم أنه يمكنه صناعة مستقبله بنفسه في الوقت الحاضر ومن القاعدة إلى القمة. وفي هذه اللحظة وبعد عقود طويلة من الانطواء والشعور بانحطاط الذات، برز نظام عفوي من الفوضى. وظهرت الحقيقة ممثلةً أفضل أمل ممكن لفجر لنظام مدني جديد بدلا من التعجرف الأبوي الضعيف.