أفكار حول الأزمة الأوروبية الحالية

Etienne BALIBAR

المترجم : CHEHAYED Jamal


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

في 21 أيار الماضي نشرتُ سلسلة من الأطروحات حول الوضع الناشئ في أوروبا عمّا سمي بـ«الأزمة المالية اليونانية»1 التي اندلعت منذ ما يزيد عن ستة أشهر. وخلاصة هذه الأطروحات كما يلي:

1) بدأت الأزمة قبل الإعلان بكثير عن صعوبات الخزينة اليونانية (على الأقل بدأت مع انفجار الفقاعة العقارية الأمريكية والإفلاسات المصرفية التي نجمت عنها). ولوجود ديون هائلة عويصة الحل غذّت الأزمة، لن تتوقف مع الإجراءات الصارمة في الميزانية والتقشف التي فُرضت أولاً على اليونان ثم على بلدان أخرى. وهي بالتالي مدعوة للاستفحال وللتأثير العميق على العلاقات بين الدول والأمم والشعوب الأوروبية.

2) إن مظاهرت السكان في اليونان احتجاجاً على تخفيضات الرواتب وإلغاء عدد من الخدمات الاجتماعية، التي ضربت الموظفين والعمال والمتقاعدين، هي مظاهرات مبررة في معظمها، لأن هذه الإجراءات لا تهاجم المسؤولين الرئيسيين عن الأزمة (أكانوا من المضاربين أو من المستفيدين من الفساد) وتشكل نفياً للديمقراطية في الشكل الذي قُررت فيه.

3) بعامة إن سياسة «إنقاذ اليورو» التي اتّبعتها الحكومات واللجنة الأوروبية – مع توترات داخلية قوية حرّكتها الدولة الأكثر قوة – تستند إلى الخداع والمخاتلة. إنّها تمرَّر سياسة توجَّهها مصالح بعض الطبقات وبعض الأمم كما لو كانت التعبير «التقني» عن المصلحة العامة. وتخفي التكاليف والرهانات الاجتماعية للركود الذي ستسببه، وتخفي أيضاً المشاكل التي يجب مجابهتها إن شئنا فعلاً انتهاج سياسة تضامن أوروبي.

4) في المرحلة الحالية من العولمة التي تشير الأزمة إلى طابعها النزاعي بمأساة، يتحدد مصير الأمم الأوروبية بالمكانة التي تحتلها في عملية اقتصادية بعيدة المدى ومزدوجة: تعميم التنافس بين المناطق (ولا يتوقف بالطبع عند حدود الاتحاد الأوروبي)، وإزاحة مراكز الإنتاج وتراكم رأس المال نحو «الطرفية» السابقة، مما يحاول إيلاء «الدور الثاني» لأوروبا، وذلك على الرغم من الكتلة السكانية ومن المصادر التي تتمتع بها. ويدور السؤال التالي: هل سنرضخ باستكانة أم سنتمكن من التصدي بطرح إستراتيجيات سياسية جماعية ومبتكرة؟.

5) ولكن أوروبا كمشروع سياسي تقع اليوم في تناقض عويص الحل تقريباً: إنها تراوح بين ضرورة التضامن الموسساتي المعزَّز، أي ضرورة وجود «نظام اتحادي» يجب ابتكار حيثياته، ولكن الوحيد الذي قد يغطي صلابة «لإدارة اقتصادية» تطالب بها جهات كثيرة، وبين غياب كل «مشاركة ديمقراطية» حقيقية في المؤسسات الحالية وفي حياتها السياسية التي وقعت فريسة البيروقراطية و«المشهدية» وإحباط المعنويات. والحال أن البيروقراطية لن يتسنى لها أن ترى النور دون الديموقراطية2. لذا جازفتُ عندما تكلمت عن ضرورة قيام «شعبوية أوروبية»، وهذه عبارة استفزازية لأن ما يتطور اليوم في أوروبا هو الشعبيات القومية. السؤال المطروح هو أن نعرف في أي اتجاه ستسير ردود الأفعال الشعبية إزاء تفاقم الأزمة: هل ستسهم في إيجاد سبل للخروج، أم على العكس سنغوص فيها لا محالة؟.

6) كخاتمة مشوبة بالتشاؤم، لاحظت في أوروبا غياب ما كان يسمّى بـ«اليسار». ومحاولاً مع ذلك رسم بديل لأفول الآفاق التي فتحها – اسمياً على الأقل – دستور أوروبا، دعوت مثقفي بلداننا القادمين منها أو المنتمين إليها ـ متجاوزين انقساماتهم ما بين «ثوريين» و«إصلاحيين» - إلى أن ينتقلوا من النقد البسيط للنيوليبرالية إلى البحث عن إستراتيجيا تتصدى للأزمة، وينخرطوا في جدل دولي.

كمفتتح للمناقشة، أود هذا المساء أن أؤكد على هذه الطروح التي لا تبدو لي أن تطورات الأسابيع الأخيرة قد أبطلتها. ولكنني أود أيضاً أن أحاول شرح صعوباتها بالعودة إلى ثلاث نقاط: الديموقراطية والشعبوية، الاقتصاد والسياسة، المركز والأطراف في القارة الأوروبية.

الديموقراطية والشعبوية:

أعي الملابسات المخيفة التي يتضمنها استعمال كلمة «شعبوية». ولكن هذه الملابسات جزء من طبيعة «الشيء» السياسي، ولا يستطيع تجنّب مخاطرها، ما إن تخرج من التجريد لتأخذ بعين الاعتبار القوى الفعلية داخل وضع معين. ومن جهة أخرى، تدل هذه الملابسات على النقطة التي يتعين فيها على السياسة الديموقراطية أن تصب جهودها في التعبئة والتنظيم والتوضيح. هذا لا يعني فقط أننا نبني (أو نعيد بناء) قوة شعبية نفتقرها اليوم، ولكن يتعين علينا – وسط مرحلة تاريخية هشة جداً – أن نتزوّد (أو أن نزودّها) بالوسائل الأخلاقية والمؤسساتية والنظرية، وأن نقاوم الشطط الذي يمكن أن تتضمنه، محاولين استخلاص العبر من ماض مأساوي في أغلب الأحيان. وأصرّ العديد من المشاركين في النقاش الذي بدأ على ضرورة إيجاد مبادرة «للمواطنين» تكبح وتنافس الأعمال الحكومية: فأحالوا إلى «المواطنة» كبديل عن «الشعبوية»3. وفي مناسبات أخرى دافعت أنا أيضاً عن توسيع المقولة ومستلزمات «المواطنة» على الصعيد الإقليمي والأوروبي بخاصة. لا أتخلّى عن ذلك قطعاً، ولكنني أعتقد أننا إذا وسعنا المفهوم بحيث يتجاوز معناه التقليدي، فإنه لا يكفي لإبراز القوة التي نحتاجها هنا.

الخطاب السائد – كما أكد إرنستو لاكلو Ernesto Laclau بخاصة – لا يلغي مفهوم «الشعبوية» على الرغم من رعب الجماهير وتدخلها في الحقل السياسي، مما يفترض فيه أن يُخلّ بلعبة القواعد الدستورية وتعرّض الديموقراطية نفسها للخطر4. والسبب الأعمق هو التهديد الذي يجعله هذا المفهوم يحوم أمام أنظار المنعم عليهم فيعسّر تبني أو إطلاق سياسات معادية للشعب.  ما يطلق عليه تسمية «شعبوية» في الخطاب السائد، بالاعتماد على أمثلة حول الغوغائية والدكتاتوريات (وهي كثيرة)، هو في الحقيقة هذا «المزيد من الديموقراطية» (نظراً لتحديداتها النخبوية والتقليصية) أو حتى هذا «الإسراف» المصنوع من المشاركة والاحتجاجات والمطالبات والحركات الجماهيرية العفوية أو المنظمة، وبدونها تصبح الديموقراطية كلمة جوفاء أو نوعاً من المخاتلة حتى. إنها بلورة واضحة المعالم وفعّالة وشغفية لمقولة «الذيموس» (الشعب) أو «البليثوس» (الكثرة، الأكثرية) التي تود الديموقراطية أن تعبّر عنها: لا «لتدمير» المؤسسات التمثيلية والبرلمانية، وتقسيم السلطات، وضمان الحقوق الفردية، وإنما لإعادة التوازن للقوى الاجتماعية ولشروط توزيع السلطة بشكل عادل، بالتعويض عن القوة التي تمارس داخل الدولة والمجتمع عن طريق الثروة والسلطة الاقتصادية، والعلاقات المخملية والمهنية، وعن طريق الخبرة والتضامن الجامعي والاحتكار شبه الوراثي للوظائف العامة (التي كان بيير بورديو يسميها «نبالة الدولة»)، والشبكات والدعوم الدولية5. وخلال الأسابيع الأخيرة رأينا النتائج الناجمة عن الوجود الصارخ لمشاركة كهذه ولموازنة كهذه: فلا أحد استطاع فعلاً الاحتجاج على السياسات المقترحة التي قبلت بها الحكومات أو الهيئات الجماعية والدولية أو التي فرضتها، لأنها تؤثر في أن تنقل للسكان عبء الديون الناجمة عن الفوضى في الأسواق أو عن الإدارة الرعناء (إن لم تقل: الفاسدة) في الأموال العامة. هذا «الإفلاس الديموقراطي»، - إذا استعملنا هذا التلطيف الشائع – ظهر أولاً في اليونان، في مرحلة التجاذبات بين حكومة باباندريو والمؤسسات التي استنجد بها. وظهر مجدداً عندما قررت بعض الحكومات الأوروبية، وبينها فرنسا وأسبانيا وألمانيا وانكلترا، إطلاق سياسات تقشفية في الميزانية والمجتمع، ولا تمتّ بصلة إلى الالتزامات التي تمّ انتخابُها بناءً عليها (ولا سيما مكافحة الفقر والبطالة). لا أحد يحتج على أن ظروف الأزمة غير المتوقعة تفرض تغييرات في التوجه السياسي. ولكننا لا نستطيع أن نطلق صفة الديموقراطية على أمر يوضع فيه السكان، أي المعنيون، خارج الدائرة، عندما نحدد حجم هذه التغيرات وأهدافها. ما ينطبق على الصعيد الوطني ينطبق بالأحرى على الصعيد «الجماعي» أو الإقليمي حيث تتخذ القرارات الضاغطة فعلاً. وإذا ما غاب النقاش الأوروبي بين السكان وبين حركات الرأي المنظمة التي تتجاوز الحدود، وباختصار إذا ما غابت الديموقراطية الأوروبية، وحدها تبقى التعارضات الخدّاعة وعلاقات القوة بين الحكومات التابعة إلى حدّ ما للقوى الرأسمالية الدولية، وتبقى أسيرة الناخبين فتحاول أن تستخدم الأفكار المسبقة بدلاً من التماس المشاركة.

تلامس هنا عاهةً ولادية عند الاتحاد الأوروبي، وربما ليست السبب الوحيد لتشوه الحياة الديموقراطية داخل كل دولة، ولكنها لا تساهم بشيء في تصحيح هذه العاهة. وتستخدم الحكومات المؤسسات العامة عندما تجد فيها مصلحة لها، لا سيما عندما تريد طرح خيارات سياسية كمستلزمات «تقنية»، ولكنها تقطع الطريق عليها ما إن تلاحظ أنها قادرة على خلق جو عام إقليمي لم تعد هذه الحكومات تتحكم وحدها بإجراءات هذه المؤسسات. ولم يرد قط في برلمان سترازبور تحليل أومناقشة خطط المساعدة أو توجّه السياسات النقدية والمالية القادمة، لأن هذا البرلمان أصبح دون هيئة استشارية. ولكن هذه «الضغينة» على الديموقراطية وهذه «الخشية» منها مدمّرتان بصورة خارقة. وعلى المدى البعيد، ستكلفان غالياً جداً، فتفقد السياسة والمؤسسات الحكومية والتمثيلية مشروعيتها، إنْ على الصعيد الوطني أو على الصعيد الأوروبي، لأن مصيرهما واحد. لذا يترتب على الأمم الأوروبية التي هي مكوّن من مكونات «شعب أوروبي» افتراضي أن تبث الحياة مجدداً في الديموقراطية، إذ بدونها لا وجود لحكومة شرعية ولمؤسسات مستدامة، ويتعين عليها أولاً أن تعبّر بحزم عن رفضها السياسات المؤسسة على استمرار الامتيازات، وحتى على تعزيزها عن طريق الأزمة6. هذا ما أردت قوله عندما تكلمت عن ضرورة وجود «شعبوية أوروبية». وهذا لا يتعارض مع المواطنة، إذ يشكّل وجهها الآخر في ظروف محددة.

ولا يفوتني أن «الشعبوية» التي نتكلم عنها اليوم – وتنتشر سريعاً في أوروبا – ليست إطلاقاً ذلك العصيان السلمي للمواطنين في شتى البلدان، ونحتاج إليه لتجديد حياة الديموقراطية ولفرض شروطها على الذين يخشونها ويضعون كل العقبات الممكنة أمام سبيلها. ومن جهة أخرى، إنها شعبوية وطنية ومناطقية، تكره الأجانب بشدة (وقد تصبح قاتلة إذا تردّى الوضع الاجتماعي كثيراً)، وتتصدى لـ«الدخلاء» (المهاجرين الوافدين خصوصاً من آسيا وجنوب المتوسط، الغجر، وحتى اليهود احتمالاً)، ولكنها تتصدى أيضاً للأوروبيين الآخرين (الشمال ضد الجنوب، الغرب ضد الشرق، الجيران ضد الجيران، حتى داخل أمة واحدة، كما هو الحال في إيطاليا)، ونشاهد مظاهراتها في كل أرجاء القارة. وهذا ما سمّاه جياكومو ماراماو Giacomo Marramao – عندما فكر في وضع بلاده التي تديرها حكومة برلوسكوني – بـ«الشعبوية الإعلامية»، التي تقترب تقنيات التلاعب بوسائل الإعلام فيها من الفاشية القحّةـ القائمة حديثاً على ظروف تاريخية وثقافية أخرى7. إزاء هذه الشعبويات الرجعية المتواشجة إلى حد ما، والتي تعبّر عن فقدان الطبقات الشعبية والطبقات الوسطى معنوياتها، وعن نزوع الزمر الحاكمة إلى الصفاقة، وعن غياب التطلعات التي تتجاوز حدود الوطن لتواجه العولمة وتراجع الحركات الاجتماعية، من الوهم بمكان أن يفكر المرء أنه يستطيع أن يطرح تبشيراً أخلاقياً بسيطاً، وأن يتغنى بفضائل دولة القانون والليبرالية، مغطياً بذلك عملياً استمرار عدم المساواة وبقاء السيطرة الساحقة لمصالح المِلكية والمال. يجب القيام بتعبئة شعبية جديدة، لا يمكن أن يكون محركها سوى الاحتجاج. ولكن مثل هذه العبارات تتضمن بحق بعض المجازفات: ولذا من المهم ربطها فوراً بالتزام ديموقراطي صارم، وفتح تطلعات بناء إيجابي في آن، لا سيما في المجال الاقتصادي. وخلافاً لما يظنه بعض منظري «الشعبوية» (إرنيستو لاكلو)، يجب على البرامج التي ترتبط بها مكوّنات مثل هذه الحركة ألاَّ تكون «خالية الوفاض»: على العكس من ذلك يجب أن تكون جوهرية وتُفرز تلاقياً حقيقياً للمصالح والأفكار عبر الحدود والفئات الاجتماعية. هذا يوصلنا إلى نوع ثانٍ من الصعوبات.

 

الاقتصاد والسياسة

إذا صح أن الخطاب السائد قد حاول المراوغة باستعماله شتى المفاهيم الجديدة ("مجتمع الشبكات"، و"الحكم" و"الإدارة" و"عقلانية الأسواق"، هذا إذا لم نقل شيئاً عن "نهاية التاريخ" التي تعرَّضت نوعاً ما للذم)، وإذا صحّ أن الأزمة الحالية تعيد النظر في هذه المفاهيم، فلأن كل شيء في الاقتصاد هو سياسي، ولأن كل شيء في السياسة أيضاً هو اقتصادي (حتى إذا لم يكن فقط هذا، الأمر الذي كان يسمّيه معلمي ألتوسير بـ"الحتمية المفرطة"). هذا لا يصحّ فقط على الشروط والنتائج، بل على السيرورات بحد ذاتها، وبالتالي على التناقضات التي يتضمنها وموازين القوى والبدائل التي تفرضها هذه الموازين. لا بل نستطيع الظن أن إحدى سمات العولمة التي بتنا نعاني من قوانينها هي أن هذه الحتمية الاقتصادية والسياسية تغطي فوراً جميع جوانب الحياة : المواطنة والعمل والثقافة والأمن الاجتماعي والحياة اليومية... يجب ألا نبقى هنا في العموميات، بل أن نحاول تفسير الرهانات حسب الواقع.

لا أريد أن أكرر هنا ما هو معروف جداً، حول الخيارات السياسية التي اتخذت بعد اندلاع الأزمة الأمريكية (ونرى اليوم، إذا ما عدنا إلى الأموال العامة والاقتصادات الوطنية، تكاليف عمليات المضاربات الفردية)، لأنها لم تودّ إلا إلى مفاقمة الأخطار. ولكن بإيجاز – وإلا توجب علينا القيام بتحليلات مطولة – أود استخلاص ثلاثة دروس بنيوية تتعلق بالربط الرأسمالي للدولة وللسوق، كما أود إثارة مشكلتين خاصتين : مشكلة الاستمرارية والقطيعة، ومشكلة القوى الموجودة في المعضلة التي تواجهها اليوم الأمم الأوروبية، وربما أمم أخرى.

الدرس الأول : إن "أزمة الأموال العامة" ليست ظاهرة محاسبة يمكن أن نعزو إليها حجماً مطلقاً : إمها نسبية وتتعلق فعلاً "بالقرارات" الآنية للأسواق المالية، وبتسجيل إمكانيات الدول لخدمة فوائد ديونها، وأسعار الفوائد التي سجلتها القروض الجديدة التي تحتاج إليها الدول المستدينة لتواجه استحقاقاتها. إن درجة مديونية الدول ودرجة استقلاليتها أو "سيادتها" الاقتصادية، تتغيّر إذن حسب تقييم الأسواق لها باستمرار وحسب وضع الشركات المسجلة في البورصة8. ولكن من يتكلم عن الأسواق يتكلم عن نظام تبادل وتقييم تشكّل البنوك الكبرى وصناديق المضاربات الأساسية فاعليها المهيمن (السائدين، إن لم نقل الأقوياء). فأصبحت إذن فاعلة سياسياً (بالمعنى القوي للكلمة)، أي أنها تملي، على مجموعة كبرى من الدول وحتى على البنوك المركزية، الشروط الخاصة بسياستها الاجتماعية والاقتصادية والنقدية. ولهذا الوضع نتائج كبرى على قدرة الهيئات السياسية التقليدية (شعوب أو أمم المواطنين) على تحديد تطورها الخاص. وربما الصين وحدها – بسبب موقفها الهيمني الممكن الذي بدأت تحصل عليه في الاقتصاد العالمي - تفلت من هذا التحوّل في العلاقات بين القدرة السياسية للدول وقدرة الفاعلين الماليين غير المستقرين في بلد واحد. وهذه بالتأكيد ليست حال الولايات المتحدة، مما يشرح كثيراً من الأشياء في إستراتيجية إدارة أوباما بعد صدمة 2008.

وهذا ما يدفعنا مباشرة إلى استخلاص الدرس الثاني الذي شدّد عليه ميشيل أغلييتا Michel Aglietta9: لا يوجد حل وسط بين منطقين يتعارضان في «تنظيم» العمليات في الأسواق المالية (ويجب التنويه بأنها «أسواق» يجب فهمها بمعنى خاص جداً، وبالتالي يتناقض مع المدلول الشائع للمفردة، ولا يزال مع ذلك يوجّه طريقة الكلام عنها، عن طريق الخطاب «الصراطي»: لا تؤدي المنافسة إلى توازن في العرض والطلب، بل تؤدي إلى هروب إلى الأمام في رسملة الأموال التي تزداد قيمتها باضطراد مع توسّع الاعتمادات.. إلى أن تنهار هذه الاعتمادات). إمّا أن القوة العامة هي التي تفرض قواعد الحذر والشفافية على عمليات المضاربة، وإما أن الضرورة اللامتناهية لرؤوس الأموال السائلة التي تستطيع أن تنكبَّ على المضاربات المجزية على المدى القصير، هي التي تقضي بوجود خلل متزايد، دون أن تتوافر الإمكانيتان معاً. وهنا أيضاً نواجه خياراً سياسياً في مجال الاقتصاد (عن طريق الأموال)، ويقترب هذا الخيار من نزاع يتعلق بالسيادة. ولكن يجب أن ننتبه – ولهذه الملاحظة معنى مهم على الصعيد الحالي للعولمة – أننا لا نعني بالـ«قوة العامة» الدول الوطنية (أو السلطات المالية الوطنية)، لأن ذلك يتعلق بحجم ومكانة الاقتصاد العالمي. والمعروف أن هناك دولاً تفضّل أن تكون أدوات لزرع الخلل التجاري للحصول أو للحفاظ على مكانتها المالية الدولية، وهنا لا ترى أي «تخلٍّ عن السيادة» (ولكنها مع ذلك لا تقبل بأن تحشر في إطار سياسيً موسّع. وبخاصة، هناك صعوبة تصطدم بها أوروبا فعلاً، وهي أن الدول (وحتى «الغنية» منها) لم تعد قادرة على أن تشكل وحدها سلطة لتنظيم الأسواق المالية بفعالية، دون أن يعرف المرء كيف يمكننا سياسياً أن نُقيم سلطة وسلطات عامة تتجاوز الدول وتتخطاها.

وفي نظري يُستخلص بخاصة من أعمال بيير نويل جيرو10Pierre Noël Giraud درس يقول إن هناك تواشجاً على المدى الطويل بين طريقة توزيع التفاوت الاجتماعي بين «المجالات» الوطنية أو داخلها (تفاوت في المداخيل – الرواتب المباشرة وغير المباشرة – مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية والثقافية، تفاوت في المستوى وفي نوع الحياة)، وبين السياسات المتبعة لزيادة تنافسيتها في ما يتعلق بجذب رؤوس الأموال الدولية (بالضغط على مستوى الرواتب – عن طريق الهجرة أو التوافق بين الدولة والنقابات، أو عن طريق كليهما – وبخفض الاقتطاعات الضريبية التي، في خاتمة المطاف، تهدد حتماً السياسات والحمايات الاجتماعية). وفي هذا المنظور، تستعيد الدول على الأقل جزءاً من قدرتها على التحديد السياسي للشروط الاقتصادية للسياسة، التي قلنا عنها آنفاً إنها تسعى إلى الإفلات منها لصالح الممثلين الماليين في لعبة الاعتماد. ونرى أنها تستفيد منها لتحبّذ، على سبيل المثال الدفاع عن نموذج معين في الضمان الاجتماعي، أو – على العكس – لتلتقط تخلفاً تاريخياً عن طريق التصنيع الموجه نحو التصدير بخاصة. ولكن هذا لا يحدث إلا بين حدين ضيقين نوعاً ما: أولاً الحد الناجم، في الاقتصاد المعولم، عن نموذج معين في التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي تدعمه الدولة (أي «نوع من أنواع الرأسمالية»، كما يقول بيير نويل جيرو)، ولا يتم اختياره طوعياً بمجرّد إصدار قرار مستقل عمّا يفعله الآخرون (وللمفارقة إذن، هو مستقل على الأقل في نظر المنظرين «السياديين» في الدولة، وتكون هذه القدرة السياسية على تمويل الاقتصاد واقعية عندما تكون الدول أكثر تلازماً فيما بينها، وتعمل بطريقة استشارية عالية)؛ وثانياً الحد الناجم عن الخيارات السياسية في مجال التفاوت الاجتماعي (فتوشك أن تكون استبعاداً أو إدراجاً لشرائح كاملة من السكان) الذي يتحمله المواطنون على مضض؛ وبكلام آخر هم يتعرّضون لما كان يسمّى في الماضي الصراع الطبقي.

على خلفية هذه الضغوط البنيوية التي تتطور اليوم بسرعة شديدة، يجب أن نتابع النقاش الذي أثارته مقترحات الكينسيين الجدد، منذ بداية الأزمة: فلم يكفوا عن التشديد على أن تعزيز قدرة الدول (أو تجمعات الدول، كما هو الحال في أوروبا) على الحد من «الأخطار المنظومية» مستحيل؛ وكذلك يستحيل زيادة سلطتها في تنظيم السوق المالية، دون أن تطوّر في آن إمكانية مؤسساتية جديدة في إدارة الاقتصاد، من جهة، ومجموعة من سياسات النمو «الدورية المضادة» (وبالتالي خلافاً لتطلعات تقليص الافلاسات والانكماش والكساد المفهرس، وبها تسعى الصراطية النيوليبرالية إلى امتصاص الديون العاجزة عن التسديد التي انتقلت من القطاع الخاص إلى القطاع العام منذ بداية الأزمة). والحال أنه من الصعب جداً، إن لم نقل إنه من المستحيل أن نتصوّر هذه الديون أو تلك دون إعادة النظر جذرياً في النظام الحالي للسلطة الاقتصادية السياسية التي ابتعدت عن مجالاتها القانونية والإدارية والبرلمانية الرسمية، فتُحيل الخيارات الأكثر حزماً إلى إدارة ظل يشكّل دور صندوق النقد الدولي في الخطة الأوروبية لـ«إنقاذ» الأموال اليونانية مثالاً جيداً11. وهناك صعوبة أيضاً، إذا كانت النزعة إلى تفاقم التفاوت في الثروات، تسم اليوم بميسمها العولمة الأحادية الشكل نوعاً ما ومازلت متفاقمة على الرغم من "استدراك" جزء كبير من "العالم الثالث" السابق12. والحق يقال، إن راديكالية التغيرات السياسية التي يقتضيها تفعيل هذه الشروط على درجة من الأهمية بحيث نستطيع أن نستنتج أحد الأمرين التاليين: إما الطابع الطوباوي لكل منظور كينيسي جديد في إطار العولمة الحالية13، وإما أن مثل هذه التطلعات قد غيّبت القطيعة مع الرأسمالية أو العودة إلى «النظرية الاشتراكية في بلد واحد»). ومع أنني لا أشك في أن كل مبادرة سياسية قادرة على إرجاء رسملة الاقتصاد والحياة الاجتماعية تحتاج إلى أفكار تنظيمية ذات طابع اشتراكي أو شيوعي حتى، لن أُقْدم مع ذلك على تأمل نظري كهذا، لأنه في هذه الظروف الفورية لا يتضمن أية فائدة. وبالمقابل، أود في خاتمة هذه النقطة التي تشغلنا أن أقول كلمة عن مسألة مجاورة للغاية: وهي مسألة طبيعة القوى المنخرطة في معركة تواجه فيها الأزمة بأشكال مختلفة، وتهدف إلى حلها أو مفاقمتها، وبالطبع لن تتمكن أن تكون مفيدة لقطاعات المجتمع ذاتها..

قلتُ قبل لحظة إن الصراع الطبقي يحوم فعلاً في أساسات العلاقة الجديدة بين الدولة والسوق. ولكن من المشكوك فيه أن تتحدّد القوى والمعسكرات التي تدور بينها اليوم المعركة السياسية فتكون كـ«طبقات» أو تحالفات طبقية (كما حاول نيكوس بولنتزاس أن يفعل ذلك منذ ثلاثين سنة)، لا بل أن تكون نقائض بين «سلطة» imperium رأسمالية و«مجموعة» أو حشد شعبي يكون ضحيتها، ولن ينتظر في هذا الصدد إلاَّ عرضاً إيديولوجيا أو برنامجاً تنظيمياً ليتمرّد ويهزم قوة المال («مثال وول ستيريت»، كما يقول أغليتا). لماذا الأشياء تفقد بساطتها، ولماذا بالتالي لا تحظى التطلعات بقدر من اليقين لا ترتضيه ترسيمة ثنوية كهذه، ترسيمة راسخة في مخيال اليسار (قبل أن تنتقل من هنا جزئياً إلى مختلف التنويعات الخاصة بـ«الطريق الثالثة»)؟ وهذا ليس بسبب الخداع الذي أسَرَ الجماهير (مثلاً الوطنية والدين، مهما كان أثرهما ضاراً). ولا يهود السبب أيضاً إلى أن أشكال زبائنية الدولة الغائصة عميقاً في النسيج الاجتماعي تُفسد روح المواطنة (حتى إذا كان من العبث نفي واقعية هذه الظاهرة). يبدو لي أن السبب القاطع يكمن هنا، لأن الجمهور متورط في سيرورة الرأسمالية المالية بسبب نشاطاته (وبالتالي بسبب عمله الثابت أو الهش، وبسبب شروط العمل، إلخ) وبسبب مصالحه المادية وبقائه على قيد الحياة، دون أن ننسى مباهجه وثقافته. وفي هذا الصدد، يكون من الخطأ الجسيم أن نتصوّر الرأسمال المالي – مهما كان نظرياً ولامادياً ومتخيّلاً – كرأسمالية طفيلية أو «ريعية» - وهذه هي مفاهيم استحدثتها في القرن التاسع عشر إيديولوجيا صناعوية ذات نزعة إنتاجية لم تفلت منها الماركسية. ما أبرزته أزمة الائتمانات هو أن شروط الحياة الأولية – وفي حالتنا هذه السكن – لجميع السكان ولا سيما الشريحة الأكثر فقراً (في الولايات المتحدة، وأيضاً في المملكة المتحدة، إلخ)، تتعلق فوراً بتعميم تسهيلات الائتمان والرسملة من طرف البنوك (التي وجدت هكذا طريقة جديدة لتدفيع الفقراء، فكانت الوصفة الأساسية للإثراء عبر التاريخ)14. فأولئك الذين ينبذهم النظام هم نوعاً ما المنضوون فيه بقوة (وإذا شئنا لقلنا إن نبذهم يأخذ شكل «نبذ متضمّن»). ولكي نأخذ مثالاً من الواقع الراهن نقول: عندما هددت الحكومة الأمريكية شركة النفط البريطانية BP، المسؤولة عن الكارثة البيئية في خليج المكسيك، بعدد من العقوبات، بعد أن لاحظت انهيار رسملتها المالية، استاءت «صناديق الاعانات» - التي تعتمد جزئياً على التضمين في «سلة» سنداتها التي كانت تعتبرها سندات موثوقة ومجزية – وفكرت في عدد من الإجراءات المتعلقة برواتب التقاعد التي تدفعها. ما هي النتائج التي يمكن أن نستخلصها، وهي نتائج يمكن أن ندرجها في ما أطلق عليه ماركس تطور مقولة الانحدار الحقيقي للعمال، وللسكان بعامة، بدافع من التراكم الرأسمالي؟15. يبدو لي قبل كل شيء أن مصالح رأس المال ومصالح السكان متلازمة. هذا لا يعني أنه لا يوجد تعارض وتناقض ونزاع، بل يعني أن التعارضات تخترق بالتالي أشكال الوعي لدى الفئات الاجتماعية. فلا ينشب الصراع إذن بين مجموعتين موجودتين من قبل (البدناء والهزالى، المستغِلين والمستغَلين، المسؤولين وضحايا السلطة)، بل هو بين شكلين ممكنين لـ«نشر» مصالح الأفراد التي تشمل جزئياً الطبقات نفسها، والأمم نفسها، والمهن نفسها، وتقضي في كل مرة أن يكون هناك شكل آخر لإدارة شؤون المجتمع. وأكاد أقول – مستعملاً لغو غرامشي (التي يستعيدها اليوم لاكلو :Laclau) – إن الصراع قائم بين «كتل تاريخية» و«هيمنات» بديلة، لا يقضي فقط بأن تنال بعض المصالح الأولوية على مصالح أخرى (كالتنافس أو الحماية الاجتماعية، والرسملة المالية أو التنمية المستدامة، والقوة الآمرة أو التبادل بين الثقافات...)، ولكن الأفراد والفئات الاجتماعية «تختار» بين طرق عديدة لتحمي مصالحها ولتضمن ديمومتها (وبالطبع يكون هذا الاختيار كل شيء، دون أن يكون حراً بالمعنى المثالي للكلمة، وتتعلق إجراءاته تعلقاً شديداً بالمكان أو «العالم» الهرمي الذي تعيش فيه الفئات الاجتماعية. إن هوية الفاعلين أو القوى الاجتماعية، هي منوطة بحد ذاتها، كما استشعرها أحياناً كارل ماركس، بأشكال «صراعها» الذي يتم في «شروط» مادية معيّنة16. وهذا يدفعنا مباشرة إلى المسألة الرابعة التي أريد أن أطرحها، ولو بشكل سريع جداً.

المراكز والأطراف:

إن خطاب ومؤسسات الاتحاد الأوروبي تنادي صورياً بالمساواة (مع أن طبيعة هذه المساواة قد خلقت دائماً مشكلة: هل تتعلق بالمواطنين الأوروبيين أم بالدول التي يختلف وزنها حسب قوتها الاقتصادية وعدد سكانها؟). ولكن ما أبرزته الأزمة الحالية هو أن الأمر يتعلق فعلاً ببنية هرمية تتركز سلطات القرار فيها بين أيدي «نادٍ» من الأمم المؤسسة (لاسيما فرنسا وألمانيا اللتان تتحالفان تارة وتتخالفان طوراً، في حين أن أمماً أخرى تمارس سلطة مضادة إلى حدّ ما، وأن انكلترا تراوح بين انتمائها المزدوج إلى العالم الأوروبي وإلى العالم الأطلسي)، وفي هذا النادي تنزع التفاوتات إلى الرسوخ أكثر منه إلى التقلص. وتحوّلت دينامية هذه البنية تحولاً عميقاً عندما توسعت وانفتحت على بلدان الكتلة الشرقية السابقة التي تحرّرت من القبضة السوفيتية. ونراها الآن من جديد بسبب تداعيات الأزمة المالية: فاحتدمت علاقات السيطرة، وبالتالي طرحت المسألة بحدّة، وهي أن نعرف كيف يمكن أن تتعدّل هذه العلاقات، لا بل كيف يمكن أن تتحول إلى رافعة لتعيد البناء على أسس مختلفة وأكثر مساواة، وهذا يفترض بالطبع تحولاً عميقاً جداً في إدراك «الأوروبيين» لأنفسهم ولما يجمعهم ويخلق مجابهة بينهم.

الترسيمة الأكثر إلحاحاً لتوصيف هذه الهرمية الداخلية لأوروبا؛ حيث تلتقي عناصر رمزية واقتصادية وسياسية، هي ترسيمة المركز والطرفية (أو بالأحرى الأطراف، إذ يبدو واضحاً أن ايرلندا واليونان أو بريطانيا العظمى وبولونيا أو إسبانيا والبرتغال، على الرغم من تقاربها وتماثلها الشكلي، لا تشكل كلاًّ متّسقاً). وأحد عقابيل هذه الترسيمة التي تبزغ بإصرار اليوم، هو أن الأمم «الطرفية» قد تكون أقل انخراطاً وأقل تجذراً في أوروبيتها، بالمقارنة مع أمم المركز، إما بسبب تاريخها السياسي وإما بسبب نمط تطوّرها الاقتصادي وإما بسبب ثقافتها (كي لا نقول بسبب عاداتها). ومن هنا نجمت فكرة طُبقت مؤخراً على اليونان في عدد كبير من الصحف الألمانية والأمريكية وغيرها، وتقول إن الأطراف – أو بالأحرى بعض الأطراف – هي أقل تشبثاً بالبناء الأوروبي، وبالتالي يمكنها أن تنفصل عنه (طوعاً أو بالقوة). وفي ما يتعلق بمسألة «بقاء اليورو على قيد الحياة» رأينا كيف استنبطت نظرية تخريج التكاليف الذي يتجلى عند بعض البلدان «الخائرة» أو التي «لا تستطيع الاندماج» مع النموذج السائد – أي النموذج الذي تشير إليه أمم «المركز»17. وللتصدي لهذا التصور، ناديت (في خطاب ألقيته عام 1999 في سالونيك)، في معنى إكراهي جداً تعززه التحولات الجارية في «المجال السياسي»، بأن «الأطراف» موجودة في «المركز» وبأن وظائفها ومشاكلها أصبحت مركزية18. ولن يستطيع الوضع الحالي أن يبطل هذه الأطروحة. ولكنه يفترض، بالتحديد، اعتماد وجهة نظر سياسية، يُحيل الحاضر فيها دائماً إلى مجمل عواملها التاريخية، ليس فقط الاقتصادية، وإنما أيضاً الثقافية والإيديولوجية. إن مجمل هذه العوامل هو الذي يحدد الوظيفة الإستراتيجية للحدود – لأنها مناطق اتصال أكثر مما هي مجرد خطوط انفصال – ويحدّد مكانُها ومسافتها نوعاً ما عن «المركز»ما نقصده بكلمة «الطرفية». والحال أن الحدود (الوطنية و«القارية» بخاصة) أصبحت اليوم مراكز المراكز بالذات. من وجهة النظر هذه، كيف نستطيع ألاَّ نولي اهتماماً بأن اليونان – بُعَيد أن فُرضت على حكومة باباندريو خطة صارمة جداً أثار قبولها إعجاب مدير صندوق النقد الدولي19 – قد شهدت زيارة رئيس الوزراء التركي الذي مازالت بلاده خارج الاتحاد الأوروبي بإرادة فرنسا وألمانيا، وبدأت تصبح أحد الحكّام اللاعبين في السياسة المتوسطية؟ لقد قَدِم إليها لينظر في شروط تعاون وثيق بين «عدوين قديمين» في عالم بحر إيجة، وتتضمن بخاصة تقليص نفقاتهما على التسلح، وتساهمان بالتالي في دخول أوروبا إلى القرن الحادي والعشرين20.

من وجهة النظر هذه نستطيع الالتفات إلى ما يعتبر النقطة الحساسة في الجدل المتعلق بـ«مكانة» اليونان والبلدان «الطرفية» الأخرى (التي تواجه صعوبات مالية مشابهة والتي تفاقمت صعوباتها المالية بشكل مماثل بسبب ضغط الأسواق): مسألة تلاقي المصالح والمؤسسات والتطورات المتوقعة في الاتحاد الأوروبي بتلك التي عرفتها المنطقة النقدية الموحدة (التي يشار إليها أحياناً بتسمية يورولاند). إذا استمرت الأزمة وتفاقمت - وبما أن هذه المسألة قد تتحول إلى بؤرة توترات ساخنة جداً، وبما أنها من جهة أخرى لا تتضمن أي حل سهل - من المفيد أن تناقش تباعاً من وجهتي نظر اثنتين: وجهة نظر اليونان نفسها، بلاد «طرفية» مهددة بالطرد، ووجهة نظر أوروبا كنظام سيطرة مبطنة نوعاً ما، ويتعلق تطورها خصوصاً بالسياسات التي يقررها «المركز».

من وجهة نظر اليونان، إلا إذا تمّ نقاش معمق، يبدو لي أننا نستطيع القول إن «انفلات» البناء السياسي لاوروبا ومنطقة اليورو له معنى أساسي، وربما حيوي. هذه الفكرة مفارقة وخطيرة، لأن العملة الموحدة هي «المؤشر الوحيد للسيادة» الذي تتمتع به أوروبا اليوم في العالم. ولكن في السيناريو الكارثي الذي يطرحه بعض رجال الاقتصاد: سيناريو يقول بوجود «علّة» غير مباشرة في الدولة اليونانية تسارعت أخيراً بسبب الركود الذي قد يسببه التقشف والطابع الذي لا يطاق لنتائجه الاجتماعية – وهذا التقشف غير مرغوب فيه بالضرورة: وتكمن المسألة في «أدنى الشرور» التي لا توجد حكماً، مما يجبر اليونان على أن تحاول تغيير معطيات المشكلة – أي أن تضطر اليونان إلى الخروج من اليورولاند لتحصل على إعادة تنظيم ديونها ولتستفيد من الامتيازات الخاصة بـ«تخفيض تنافسي لعملتها» على الطريقة الأرجنتينية أو السويدية. في هذه الظروف («الكارثية»، كما قلت، لا للبلاد فحسب وإنما لتداعياتها الكثيرة على البلدان الأخرى)، من الواضح ألا تُعتبر «أوروبا» و«اليورولاند» كمفهومين مترادفين، وألاّ تجد اليونان نفسها (والأمم الأخرى التي تواجه المعضلة ذاتها) «مهمَّشة» و«مستضعفة» داخل الاتحاد الأوروبي (فيكون ذلك مثلاً بتعليق تصويتها في المجلس الأوروبي، وهذا تهديد لوّحت به ألمانيا بحق البلدان ذات الميزانيات الخائرة – ناسية أنها واجهت هذه المشكلة منذ مدة ليست ببعيدة). ويجب أن يصبح التمييز بين أوروبا واليورولاند مطلباً أساسياً لدى الديموقراطيين الأوروبيين.

وإذا انتقلنا الآن إلى النقطة الخاصة بـ«النظام» نفسه، فإن المنظور «الكارثي» أيضاً في مجمله، الذي ارتسم هو منظور تباين متفاقم بين رأسي «الثنائي الفرنسي الألماني» الشهير. وليس هذا التباين ناجماً عن تكارُه شخصي بين السيدة ميركيل والسيد ساركوزي، بل يحيل بالأحرى إلى ثقافات سياسية متغايرة طغت على السطح أثناء الأزمة وأثناء تفاوت القوى منذ توحيد شطري ألمانيا، ومنذ انفتاح الاتحاد الأوروبي على البلدان الاشتراكية السابقة في شرقي أوروبا، ومنذ تبنّي قواعد مختلفة للتصدي لـ«معيار» 1997 المتعلق بالافلاسات المالية («ميثاق الاستقرار والنمو»، المتضمّن في معاهدة امستردام). في مقالة مدوّية، تساءل هابرماس مؤخراً عن «اللامبالاة المتنامية» عند السياسيين الألمان بالنسبة لبناء أوروبا – واتضح نزوعهم إلى تفضيل وجهات نظرهم القومية لتعزيز قوة بلادهم الخاصة على المصالح الأوروبية (التي في نظره تخدم مصالح ألمانيا نفسها على المدى البعيد)21. وبوسعنا أن نقول الشيء نفسه عن الفرنسيين، حتى وإن لعبوا أحياناً الدور الجميل القائل بالدفاع عن «المستضعفين». ظاهرياً تعتمد الحكومة الفرنسية على بلدان عديدة جعلتها الأزمة هشة في منطقة اليورو (إسبانيا، اليونان، البرتغال)، لتدفع قُدماً الفكرة القائلة بسياسة نقدية ومالية تنسقها «الأوروغروب» (مجموعة اليورو) ولتتقدم بضع خطوات في اتجاه الحمائية الأوروبية22. هذا على الأقل ما ينتقده عليه خصومها. وعلى العكس من ذلك، فإن الحكومة الألمانية تعتمد على بلدان لا تنتمي إلى منطقة اليورو (بولونيا، بريطانيا العظمى، السويد، الجمهورية التشيكية) لتبرز الفكرة القائلة بإجراء رقابة مالية أوروبية رشيقة في السياسة النقدية، وذلك بمنع «عمليات النقل المالي» بين دول الشمال الشرقي من أوروبا إلى دول الجنوب الغربي منها. من المبكر جداً أن نعرف إذا كانت الأطروحة الألمانية ستكون مقدَّمة لتغيير موقفها بالنسبة لمركزية اليورو في البناء الأوروبي، لأن هذا يتعلق بنتيجة هذه «المكاسرة»، حتى إذا كان بعض المعلقين يطرحون «خروجاً من الأعلى» من العملة المشتركة، مما يتوازى مع «خروج من الأسفل» ينصح به بعضهم أو يتوقعونه لليونان23. وعلى الأرجح أن هاتين القوتين المركزيتين، على الرغم من المكاسب التي تحققانها من «هيمنتهما المشتركة»، ومن مدى تداخل اقتصاداتهما اليوم، فإنهما ستدخلان لمدة طويلة في مرحلة تغاير ونزاع مزمن (حتى إذا حاولنا تقنيعه باحتجاجات تركز على الوئام، وتجنيبه التردي للوصول إلى القطيعة التي ستدفعان ربما كلتاهما ثمنها الغالي). ما مصير الفكرة القائلة بـ«مركز» لأوروبا، حتى وإن كان خفياً؟ بوسعنا التفكير في أن مصلحة الشعوب الأوروبية هي إزعاج هذه المواجهة، بأسماعها أصواتاً أخرى وبطرحها مشاريع أخرى. وهنا نجد المسألة اللاهبة للديموقراطية، التي تأخذ شكل مساواة بين الأمم، ومسألة نشر فرضيات بديلة في فضاء عالم يتجاوز حدود بلد واحد ولا تتحكم فيه الحكومات والآليات الانتخابية24. وربما يتعين علينا أن نشكك في صورة «المركز» و«الأطراف»، أو بعبارة أخرى نشكك في البنية الهرمية التي انتصرت في النهاية في تاريخ بناء أوروبا، دون أن تتضمنه بالضرورة: لا لقلب المجنّ عليه الواحد بعد الآخر بل لإعطاء الأولوية للتطور التضامني للبلدان الأعضاء، ولتكامل مناطقها، ولاستدراك «تباينات التطور» الداخلية، مما يشكل ضمانة جماعية تقاوم «المجازفات التنظيمية» ويتيح الفرصة الإيجابية للتغلب على ظواهر الغوغائية والفساد في هذا البلد أو ذاك، بدل من تحويل ذلك إلى عنصر ابتزاز.

ولكن هناك سبب آخر لعدم الأخذ بهذا الأمر، وهو أنه يذوب في سياق العولمة. ما يكون «في المركز» أو «في الأطراف» في العالم، لا يكونه بالضرورة في أوروبا، والعكس صحيح، مع أن أوروبا بحد ذاتها تجد نفسها في توازن غير مستقر بين المناطق «المركزية» (المسيطِرة) و«الطرفية» (التابعة) في النظام العالمي الجديد. إن صورة المركز والأطراف داخل أوروبا يلامس هنا حدودها المطلقة، لأنها تجهل أن علاقات القوى الداخلية تحددها باستمرار تبادلات واتصالات تتم مع الخارج. وإذا كانت أوروبا لا تجهل ذلك، فإنها تكتفي باستعماله كوسيلة. إذا وجدت «مراكز» عديدة متباينة، فلأنّ علاقتها الإستراتيجية لنزعات العولمة لم تعد هي هي. وإذا وجدت عدة أنواع من الطرفية – فلا تعني الرواتب المنخفضة في بولونيا والرواتب المنخفضة في اليونان الشيء ذاته – فلأن التقسيم الدولي للعمل يشبه «أحواض» الثقافة وأشكال التراث التاريخي التي تجتاز القارة الأوروبية، فترسم حدوداً عديدة متحركة وثابتة في آن.

هذه الأوضاع والحالات العديدة – إذا ما نُظر إليها من زاوية القوة والعمل والثقافة – تستطيع أن تصبح إدانة لأوروبا، إذا استخدمت لمفاقمة واستغلال التباينات، وينتهي بها الأمر إلى التحول مجدداً إلى خصومات عصية على الحل، كما حصل في مراحل أخرى من تاريخها. وتستطيع أيضاً أن تصبح وسيلة من وسائل حيويتها وتواصلها مع باقي العالم، لو أنها – في التجار – العنيفة للأزمة – أفضت إلى ابتكار تنسيق متألق بين التضامن والتنوع. ولذا يبدو لي مهماً أن نفكر معاً، بصفتنا مواطنين أوروبيين، في المحن التي تواجهونها وفي الطرق المتاحة كي تتجاوزوها، ولكن أيضاً في ما تكشفه لنا جميعاً. وللمساهمة في هذا التفكير جئت إلى هنا هذا المساء، بناء على دعوتكم التي أثّرت في وشرّفتني. وأتيت إلى هنا بخاصة لكي أتعلّم أن أُعمل تفكيري بطريقة أفضل. منذ مدّة طويلة تكوّنت لدي قناعة تقول إن «حق النظر» في شؤون جيراننا كان شرطاً من شروط المواطَنة الأوروبية. ولكنني أعلم أيضاً أننا لا نستطيع قط الادّعاء بأننا نعرف أحسن من الآخرين، وهذا ما يجعل تجربتهم التاريخية متميزة.

 

 

1«أوروبا: أزمة أم نهاية؟»، نُشرت على موقع Mediapart (دخلت في الخدمة، «أوروبا: الأزمة النهائية؟»، نص مقتضب نشر في جريدة The Guardian في 25/5/2010، «أوروبا هي مشروع سياسي مات»، نص كامل سينشر على مجلة الكترونية Theory and Event، حزيران 2010).
2هذا عكس ما يؤكده بعض كبار الصحفيين المؤيدين للأوروبية: ذكر برنار غويتا Bernard Guetta في صحيفة «ليبراسيون» بتاريخ 5/5/2010. في مقالة عنوانها «الولادة غير المؤكدة لأوروبا»: «بدأنا الآن ننتقل من المبدأ إلى التطلع في إدارة اقتصادية (...). قد تكون أمراً دقيقاً جداً وصعباً إذا لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من ذلك. وإن حدث هذا، فقد تكون بداية نهاية الاتحاد (...) إذا اندمجت أوروبا بدل أن تتخفف من هذا الاندماج، وعندئذ قد تطرح مسألة ديمقراطية الاتحاد طرحاً لا مباشراً اليوم كي تكون ديمقراطية مليئة وكاملة».
3أنظر مثلاً ج.ك. غالبرايث J.K.Galbraith: «تعويم اليونان يُفرق أوروبا»، لوموند ديلوماتيك، حزيران 2010.
4الأمثلة التي نطلق عليها اليوم تسمية "شعبوية" تملأ حيزاً واسعاً من الطيف، وتنطلق من الحركات القومية والفاشية الجديدة لتصل إلى حركات التعبئة المعادية للإمبريالية لدى هوغو شافيز أو لدى البيرونيين الأرجنتينيين الجدد، الذين تحرروا من تبعية صندوق النقد الدولي عندما انهارت عملة البيزو، مروراً بالمحاولات المنسوبة للرئيس أوباما الاعتماد على الرأي العام لفرض ناظم للعمليات المالية في وول ستريت. أنظر إ. لاكلو: «حول السبب الشعبوي»، فيرسو 2005 (وتقديمي لهذا الكتاب في «اقتراح مساواة الحرية» PUF، 2010، وهي بعنوان: «الشعبوية والسياسة: عودة العقد».)
5أنظر مقالة ألان دوهاميل Alain Duhamel في صحيفة ليبراسيون بتاريخ 10/6/2010: «جمهور الناخبين الشعبي وجمهور الناخبين المالي».
6كلمة «بحزم» لا تعني العنف، حتى إذا لم تُستبعد دائماً هذه الإمكانية (على كل حال لا يمكن أن تستخدم كذريعة للقمع الاحتياطي). ولكن يجب إذن إيجاد بدائل: نتساءل عمّا تنتظره أحزاب «اليسار» والنقابات الأوروبية (أو غيرها من الجمعيات) للتفكير في مظاهرات وحملات عرائض لدى بروكسل وسترازبور احتجاجاً على الخطط الجادة التي ستجتاح المكوّنات الاجتماعية لـ«الأنموذج الأوروبي».
7لقد استعمل جياكومو ماراماوهذه العبارة في مداخلته أثناء يوم دراسي عن «ماركس اليوم»، نظمته مجموعة نوزوفي، جامعة باريس الأولى، في 4 حزيران 2010.
8يلاحظ فريديرلك لوردون (يقول وبحق في هذا الصدد: تضاعفت الديون اليونانية لأنها اختيرت كهدف أول في أوروبا للمضاربات في البورصة ليتم تقويمها من قبل أوروبا، وقد يحدث هذا الأمر غداً لإسبانيا أو المملكة المتحدة أنظر مقالة «الأزمة في منعطف الطريق (http: blog. Mondediplo. net/2010-05-07)..». ويبدي جوزيف ستيغليز الملاحظة نفسها (أنظر مقالته: «التقشف يؤدي إلى الكارثة»، جريدة لوموند في 22/05/10).
9أنظر كتابه «الأزمة سبل الخروج منها»، ميشالون، 2010؛ هذا بالإضافة إلى مقالته «الأزمة الطويلة لأوروبا» في جريدة لوموند، بتاريخ 18/6/2010.
10انظر كتاب «تفاوت العالم»، فوليو غاليمار 1966؛ وكتاب «العولمة. بزوغات وتشظيات»، دار نشر العلوم الإنسانية 2008.
11ولكن فساد الوسطاء في الأسواق العامة الكبرى أو تضخم العائدات الكبرى شكل من أشكالها. ونذكّر هنا بالإصرار الشجاع للنائب الفرنسي الألماني عن حزب الخضر دانييل كون بنديت الذي لفت الانتباه إلى سرية الخطة القاضية بتقليص النفقات العامة، التي فرضت على اليونان في نيسان الماضي؛ وقال إن هذا التقليص لن يمس النفقات العسكرية الهائلة للدولة اليونانية، إذ تستفيد منها أساساً شركات التسليح الفرنسية والألمانية...
12أنظر بيير نويل جيرو في كتابه المذكور آنفاً. أنظر أيضاً نتائج التحقيق التي نشرتها جريدة ليبراسيون في 14/6/2010، مع تعليقات دانييل كوهين وجيل فينشلشتاين.
13هذا هو موقف طوني نغري: أنظر مقالته في العدد الخاص من «الفلسفة الراديكالية» المخصص لكينس، وعنوانها «لا إمكانية لمقدار جديد» No New deal is possible، ونشرت في العدد 155، أيار، حزيران 2009 من مجلة Radical Philosophy («هل سنعود إلى كينس؟»).
14أنظر فريديريك لوردون: «إلى متى؟ كي نضع نهاية للأزمات الاقتصادية»، دار ريزون داجير، 2008.
15Karl Marx: Resultate des unmittelbaren Produktionsprozesses, Verlag Neue Kritik, 1969; tr.fr.Karl Marx: Un chapitre inédit du Capital, tr.et présentation de R. Dangeville, U.G.E., collection «10/18», Paris 1971). Cf. mon commentaire dans La proposition de l'égaliberté.., cit., «L'antinomie de la citoyenneté», p. 42-43.
16رجعتُ إلى مفهوم غرامشي عن «الكتل التاريخية» وبالتالي إلى التوسع الذي خصصه لها أرنستو لاكلو. ولكن يوجد فرق رئيسي بين الترسيمِة التي اقترحها لاكلو وبين ما سأحاول هنا طرحه: أؤيد الفكرة القائلة بأن السياسة تتم في المجابهة بين هيمنات بدائلية تبني سياسياً كل هيمنة «سلسلة من المعادلات» بين مصالح ومطالب متنافرة يُفرض عليها شكل مشترك في الظروف الحالية، وتتضمن جميع مفاتيح تفكيرنا حول التطورات القادمة للأزمة الأوروبية. وبالمقابل لا أظن قطعاً أن شرط بناء هيمنة محددة (كـ«الشعبوية»، على سبيل المثال) يقوم على بزوغ تسمية فارغة قدر الإمكان، وبالتالي قادرة على أن تفسرها كل فئة اجتماعية بكلام مختلف، مما لا يمسّ بجوهر المطالب البدائية لكل فئة اجتماعية موحّدة فقط بالمقارنة مع مطالب أخرى. على العكس من ذلك، أؤمن بأن الخيارات السياسية تزرع الفُرقة بين مصالح كل فئة فتقسمها إلى بدائل متناقضة، وبأن الهيمنات التحويلية تاريخياً (أو المحافظة) تحتوي على أشكال عيش وطرق إنتاج متمايزة فعلاً.
17يجب العودة إلى تصريحات المفوض الأوروبي كاريل دي غوخت في 6 أيار 2010 لجريدة Süddeutsche Zeitnng: «لا أريد أن أنتقد ألمانيا، اريد أن نقتدي بها في معرض تطويرنا إمكانية التصدير لدى كل بلد» («ألمانيا تعمل كل ما يجب على الآخرين أن يعملوه»)... هناك وجوه عديدة لهذه النظرية تشير عَرَضاً إلى الاتجاه المعاكس: وهكذا نرى أن قسماً كبيراً من الرأي العام الإنكليزي يرى من وقت لآخر أن بريطانيا العظمى هي «طرف ممكن أن ينفصل»، كأنه بذلك يعني أنها تنتمي إلى كتلة أخرى وأنه من مصلحتها تحبيذها. ومن جهة أخرى يكون الانتقال من «المركز» إلى «الطرفية» بالتحديد رجراجاً تماماً. وفي بعض السيناريوهات المتطرفة، تطرح الفكرة القائلة بـ«إعادة» بناء أوروبا انطلاقاً من «نواة» محدودة جداً: «الثنائي الفرنسي الألماني» الشهير الذي توصف صلابته كـ «محرك أوروبا»، فيعاد تشكيل «منطقة المارك الألماني» داخل منطقة اليورو نفسها..
18إتيين باليبار: «على حدود أوروبا»، مداخلة في كتاب «نحن مواطنو أوروبا؟»، دار نشر لاديكوفرت، 2001، ص 15 – 26.
19تصريح نقلته جريدة لوموند في 4 أيار 2010.
20أنظر جريدة لوموند 15/5/2010: «عصر جديد في العلاقات اليونانية التركية. رئيس الوزراء التركي السيد أردوغان يزور أثينا. في قلب النقاش، مسائل الدفاع». الصحافة انتهزت الفرصة بمناسبة الأزمة اليونانية لتعود إلى ظروف وشروط دخول اليونان إلى المجموعة الأوروبية عام 1981، بعيد نهاية دكتاتورية الجنرالات، وذكُّرت بأن هذا الدخول قد حدَدته إرادة تمتين الديموقراطية في الطرف الجنوبي لأوروبا، وتعزيز «الجبهة المشتركة» للبلدان الأعضاء في حلف شمال الأطلسي للتصدي كما سمي وقتئذ بـ«التهديد السوفيتي» للقارة الأوروبية. ويأخذ هذا التذكير معناه الكامل عندما نقرّبه من الوظيفة الإقليمية التي بدأ التطبيع والمصالحة بين اليونان وتركيا يحققانها.
21«اللامبالاة الجديدة لألمانيا»، نشرت في جريدة ديى تسايت في 20 أيار 2010.
22أو تنزع نحو «تفضيل جماعي» اندرج صراحةً في البرنامج الانتخابي لساركوزي عام 2007.
23أنظر مقالة ج.ب.فيسبيريني التي نشرتها لوموند بتاريخ 11 أيار 2010، وعنوانها «قد يكون أقل الحلول سوءاً هو أن تخرج ألمانيا».
24بوسعنا التفكير، ولو بصورة مثالية، أن مصلحة الشعوب الأوروبية تكمن في استكشاف الطرق المتعلقة بـ«العملة المشتركة»، وتختلف عن «العملة الموحدة» التي تدار حالياً بموجب معيار استقرار واحد بدأ يتداعى. انظر مقالة فريديريك لوردون: «الأزمة في مهب الريح»، الآنفة الذكر. ويجب التنويه بأن البنك المركزي الأوروبي، عندما أنشئ، كان يتضمن في قوانينه أهدافاً تتعلق بالتشغيل الأعظمي إلى جانب أهداف تتصدى للتضخم، ولكنها رفضت بصراحة.

notes

1«أوروبا: أزمة أم نهاية؟»، نُشرت على موقع Mediapart (دخلت في الخدمة، «أوروبا: الأزمة النهائية؟»، نص مقتضب نشر في جريدة The Guardian في 25/5/2010، «أوروبا هي مشروع سياسي مات»، نص كامل سينشر على مجلة الكترونية Theory and Event، حزيران 2010).
2هذا عكس ما يؤكده بعض كبار الصحفيين المؤيدين للأوروبية: ذكر برنار غويتا Bernard Guetta في صحيفة «ليبراسيون» بتاريخ 5/5/2010. في مقالة عنوانها «الولادة غير المؤكدة لأوروبا»: «بدأنا الآن ننتقل من المبدأ إلى التطلع في إدارة اقتصادية (...). قد تكون أمراً دقيقاً جداً وصعباً إذا لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من ذلك. وإن حدث هذا، فقد تكون بداية نهاية الاتحاد (...) إذا اندمجت أوروبا بدل أن تتخفف من هذا الاندماج، وعندئذ قد تطرح مسألة ديمقراطية الاتحاد طرحاً لا مباشراً اليوم كي تكون ديمقراطية مليئة وكاملة».
3أنظر مثلاً ج.ك. غالبرايث J.K.Galbraith: «تعويم اليونان يُفرق أوروبا»، لوموند ديلوماتيك، حزيران 2010.
4الأمثلة التي نطلق عليها اليوم تسمية "شعبوية" تملأ حيزاً واسعاً من الطيف، وتنطلق من الحركات القومية والفاشية الجديدة لتصل إلى حركات التعبئة المعادية للإمبريالية لدى هوغو شافيز أو لدى البيرونيين الأرجنتينيين الجدد، الذين تحرروا من تبعية صندوق النقد الدولي عندما انهارت عملة البيزو، مروراً بالمحاولات المنسوبة للرئيس أوباما الاعتماد على الرأي العام لفرض ناظم للعمليات المالية في وول ستريت. أنظر إ. لاكلو: «حول السبب الشعبوي»، فيرسو 2005 (وتقديمي لهذا الكتاب في «اقتراح مساواة الحرية» PUF، 2010، وهي بعنوان: «الشعبوية والسياسة: عودة العقد».)
5أنظر مقالة ألان دوهاميل Alain Duhamel في صحيفة ليبراسيون بتاريخ 10/6/2010: «جمهور الناخبين الشعبي وجمهور الناخبين المالي».
6كلمة «بحزم» لا تعني العنف، حتى إذا لم تُستبعد دائماً هذه الإمكانية (على كل حال لا يمكن أن تستخدم كذريعة للقمع الاحتياطي). ولكن يجب إذن إيجاد بدائل: نتساءل عمّا تنتظره أحزاب «اليسار» والنقابات الأوروبية (أو غيرها من الجمعيات) للتفكير في مظاهرات وحملات عرائض لدى بروكسل وسترازبور احتجاجاً على الخطط الجادة التي ستجتاح المكوّنات الاجتماعية لـ«الأنموذج الأوروبي».
7لقد استعمل جياكومو ماراماوهذه العبارة في مداخلته أثناء يوم دراسي عن «ماركس اليوم»، نظمته مجموعة نوزوفي، جامعة باريس الأولى، في 4 حزيران 2010.
8يلاحظ فريديرلك لوردون (يقول وبحق في هذا الصدد: تضاعفت الديون اليونانية لأنها اختيرت كهدف أول في أوروبا للمضاربات في البورصة ليتم تقويمها من قبل أوروبا، وقد يحدث هذا الأمر غداً لإسبانيا أو المملكة المتحدة أنظر مقالة «الأزمة في منعطف الطريق (http: blog. Mondediplo. net/2010-05-07)..». ويبدي جوزيف ستيغليز الملاحظة نفسها (أنظر مقالته: «التقشف يؤدي إلى الكارثة»، جريدة لوموند في 22/05/10).
9أنظر كتابه «الأزمة سبل الخروج منها»، ميشالون، 2010؛ هذا بالإضافة إلى مقالته «الأزمة الطويلة لأوروبا» في جريدة لوموند، بتاريخ 18/6/2010.
10انظر كتاب «تفاوت العالم»، فوليو غاليمار 1966؛ وكتاب «العولمة. بزوغات وتشظيات»، دار نشر العلوم الإنسانية 2008.
11ولكن فساد الوسطاء في الأسواق العامة الكبرى أو تضخم العائدات الكبرى شكل من أشكالها. ونذكّر هنا بالإصرار الشجاع للنائب الفرنسي الألماني عن حزب الخضر دانييل كون بنديت الذي لفت الانتباه إلى سرية الخطة القاضية بتقليص النفقات العامة، التي فرضت على اليونان في نيسان الماضي؛ وقال إن هذا التقليص لن يمس النفقات العسكرية الهائلة للدولة اليونانية، إذ تستفيد منها أساساً شركات التسليح الفرنسية والألمانية...
12أنظر بيير نويل جيرو في كتابه المذكور آنفاً. أنظر أيضاً نتائج التحقيق التي نشرتها جريدة ليبراسيون في 14/6/2010، مع تعليقات دانييل كوهين وجيل فينشلشتاين.
13هذا هو موقف طوني نغري: أنظر مقالته في العدد الخاص من «الفلسفة الراديكالية» المخصص لكينس، وعنوانها «لا إمكانية لمقدار جديد» No New deal is possible، ونشرت في العدد 155، أيار، حزيران 2009 من مجلة Radical Philosophy («هل سنعود إلى كينس؟»).
14أنظر فريديريك لوردون: «إلى متى؟ كي نضع نهاية للأزمات الاقتصادية»، دار ريزون داجير، 2008.
15Karl Marx: Resultate des unmittelbaren Produktionsprozesses, Verlag Neue Kritik, 1969; tr.fr.Karl Marx: Un chapitre inédit du Capital, tr.et présentation de R. Dangeville, U.G.E., collection «10/18», Paris 1971). Cf. mon commentaire dans La proposition de l'égaliberté.., cit., «L'antinomie de la citoyenneté», p. 42-43.
16رجعتُ إلى مفهوم غرامشي عن «الكتل التاريخية» وبالتالي إلى التوسع الذي خصصه لها أرنستو لاكلو. ولكن يوجد فرق رئيسي بين الترسيمِة التي اقترحها لاكلو وبين ما سأحاول هنا طرحه: أؤيد الفكرة القائلة بأن السياسة تتم في المجابهة بين هيمنات بدائلية تبني سياسياً كل هيمنة «سلسلة من المعادلات» بين مصالح ومطالب متنافرة يُفرض عليها شكل مشترك في الظروف الحالية، وتتضمن جميع مفاتيح تفكيرنا حول التطورات القادمة للأزمة الأوروبية. وبالمقابل لا أظن قطعاً أن شرط بناء هيمنة محددة (كـ«الشعبوية»، على سبيل المثال) يقوم على بزوغ تسمية فارغة قدر الإمكان، وبالتالي قادرة على أن تفسرها كل فئة اجتماعية بكلام مختلف، مما لا يمسّ بجوهر المطالب البدائية لكل فئة اجتماعية موحّدة فقط بالمقارنة مع مطالب أخرى. على العكس من ذلك، أؤمن بأن الخيارات السياسية تزرع الفُرقة بين مصالح كل فئة فتقسمها إلى بدائل متناقضة، وبأن الهيمنات التحويلية تاريخياً (أو المحافظة) تحتوي على أشكال عيش وطرق إنتاج متمايزة فعلاً.
17يجب العودة إلى تصريحات المفوض الأوروبي كاريل دي غوخت في 6 أيار 2010 لجريدة Süddeutsche Zeitnng: «لا أريد أن أنتقد ألمانيا، اريد أن نقتدي بها في معرض تطويرنا إمكانية التصدير لدى كل بلد» («ألمانيا تعمل كل ما يجب على الآخرين أن يعملوه»)... هناك وجوه عديدة لهذه النظرية تشير عَرَضاً إلى الاتجاه المعاكس: وهكذا نرى أن قسماً كبيراً من الرأي العام الإنكليزي يرى من وقت لآخر أن بريطانيا العظمى هي «طرف ممكن أن ينفصل»، كأنه بذلك يعني أنها تنتمي إلى كتلة أخرى وأنه من مصلحتها تحبيذها. ومن جهة أخرى يكون الانتقال من «المركز» إلى «الطرفية» بالتحديد رجراجاً تماماً. وفي بعض السيناريوهات المتطرفة، تطرح الفكرة القائلة بـ«إعادة» بناء أوروبا انطلاقاً من «نواة» محدودة جداً: «الثنائي الفرنسي الألماني» الشهير الذي توصف صلابته كـ «محرك أوروبا»، فيعاد تشكيل «منطقة المارك الألماني» داخل منطقة اليورو نفسها..
18إتيين باليبار: «على حدود أوروبا»، مداخلة في كتاب «نحن مواطنو أوروبا؟»، دار نشر لاديكوفرت، 2001، ص 15 – 26.
19تصريح نقلته جريدة لوموند في 4 أيار 2010.
20أنظر جريدة لوموند 15/5/2010: «عصر جديد في العلاقات اليونانية التركية. رئيس الوزراء التركي السيد أردوغان يزور أثينا. في قلب النقاش، مسائل الدفاع». الصحافة انتهزت الفرصة بمناسبة الأزمة اليونانية لتعود إلى ظروف وشروط دخول اليونان إلى المجموعة الأوروبية عام 1981، بعيد نهاية دكتاتورية الجنرالات، وذكُّرت بأن هذا الدخول قد حدَدته إرادة تمتين الديموقراطية في الطرف الجنوبي لأوروبا، وتعزيز «الجبهة المشتركة» للبلدان الأعضاء في حلف شمال الأطلسي للتصدي كما سمي وقتئذ بـ«التهديد السوفيتي» للقارة الأوروبية. ويأخذ هذا التذكير معناه الكامل عندما نقرّبه من الوظيفة الإقليمية التي بدأ التطبيع والمصالحة بين اليونان وتركيا يحققانها.
21«اللامبالاة الجديدة لألمانيا»، نشرت في جريدة ديى تسايت في 20 أيار 2010.
22أو تنزع نحو «تفضيل جماعي» اندرج صراحةً في البرنامج الانتخابي لساركوزي عام 2007.
23أنظر مقالة ج.ب.فيسبيريني التي نشرتها لوموند بتاريخ 11 أيار 2010، وعنوانها «قد يكون أقل الحلول سوءاً هو أن تخرج ألمانيا».
24بوسعنا التفكير، ولو بصورة مثالية، أن مصلحة الشعوب الأوروبية تكمن في استكشاف الطرق المتعلقة بـ«العملة المشتركة»، وتختلف عن «العملة الموحدة» التي تدار حالياً بموجب معيار استقرار واحد بدأ يتداعى. انظر مقالة فريديريك لوردون: «الأزمة في مهب الريح»، الآنفة الذكر. ويجب التنويه بأن البنك المركزي الأوروبي، عندما أنشئ، كان يتضمن في قوانينه أهدافاً تتعلق بالتشغيل الأعظمي إلى جانب أهداف تتصدى للتضخم، ولكنها رفضت بصراحة.