حوار حول الإخضاع

تمّ هذا اللقاء في مكتبة «لو ميرل الساخِر» يوم الثلاثاء الواقع في 25 كانون الثاني (يناير) 2010 في باريس

Gayatri CHAKRAVORTY SPIVAK | Etienne BALIBAR

المترجم : CHEHAYED Jamal


  • ar
  • fr
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

تم اصدار نص هذا اللقاء بالتعاون مع دار نشر أمستردام

اتيين باليبار: أودّ فعلاً أن أعبّر عن حبوري بوجودي هنا مع أصدقائنا من دار نشر «أمستردام»، ومن مكتبة «لو ميرل الساخِر»، ومن دار نشر «بايو» الممثّلة هنا - وهذا أمر هام - بفرانسواز بويّو مترجمة غياتري، ومن مجلة «ترانس أوروبيان» التي تنوي تسجيل هذا الحوار. إذن، يطيب لي أن أكون هنا مقدّم غياتري سبيفاك ومحاورها، ويدلّني عدد الأشخاص الموجودين هنا في فترة ما بعد الظهر أنّها ليست بحاجة إلى تقديم، لأن لديها جمهوراً عريضاً من القرّاء الذين يتغذّون بفكرها ويتمنّون أن يستمعوا إليها وأن يتناقشوا معها. والحق يقال إنني عرفت هذا الحبور للمرة الثانية، إذ جمعتنا - منذ سنوات خلتْ - مناسبة مشابهة في «المدرسة الدولية للفلسفة». ووقتها قدّمتُ كتاب غياتري سبيفاك الذي لم يترجم بعد إلى الفرنسية، مع العلم أنه يمثّل حصيلة عملها وتفكيرها، وعنوانه: «A Critique of Postcolonial Reason» (نقد العقل المابعداستعماري)؛ أما عنوانه الفرعي فهو «نحو تاريخ الحاضر الهارب والحاضر المتلاشي». وصدر عام 1999 عن دار نشر جامعة هارفارد. وأذكر الآن هذا الكتاب لأن عنوانه بالذات يشير فعلاً إلى أحد الأسباب الكبرى التي خلقت شهرة هذه السيدة المعطاء في مجال الفلسفة العالمية - لا بل الكوكبية، وقد نعود إلى هذا المصطلح في حديثنا – وأثارت الاهتمام بعملها. وفي هذه الأثناء، ظهرت في اللغة الفرنسية أعمال أخرى عديدة مثل: «في عوالم أخرى بكلمات أخرى» (En d'autres mondes et d'autres mots). الذي صدر للمرة الأولى عام 1987 وأعيد طبعه عدة مرات. وهذا الكتاب كناية عن مجموعة رسائل، وترجمتْه إلى الفرنسية فرانسواز بويّو، وتتقاطع فيه أبعاد عديدة من أبعاد عملها، أي النقد الأدبي، والنسوية، ومحاولة طرح نظام مفهومِي «متطور» تستقيه من شتى المصادر النظرية، وإشكالية تتيح تفسير تشكّل العالم الاستعماري وتشوّهه، والترجمة التي تشغل مكاناً مهماً في هذا الكتاب. وتشكّل هذه الأخيرة أحد جمالاته. أمّا القسم الثالث المعنون بـ «الدخول إلى العالم الثالث» فهو كناية عن إعادة ترجمة من الإنكليزية إلى الفرنسية لترجمات اقترحتها غياتري سبيفاك هي نفسها لقصص كتبتها الأدبية البنغالية محاسوته ديفي، وحاولتْ في مقدّماتها وفي تعليقاتها أن تطوّر نظرية مبتكرة في الترجمة ومنهجها وأهدافها وصعوباتها في السياق المابعداستعماري، أي العلاقة القائمة بين إحدى اللغات الكبرى في حضارة الهند وبين إحدى اللغات السيادية، إن لم نقل اللغة السيادية الأولى في الفضاء الغربي [...]. وهناك أيضاً هذا الكتاب الصغير - وعنوانه «الدولة الشاملة» - الذي صدر عن دار بايو أيضاً، وترجمته فرانسواز بويو، وهو تفريغ وإعادة صياغة لحوار مسجّل بين غياتري سبيفاك وجوديت بوتلر. وهناك أخيراً وليس آخراً كتاب «هل يستطيع المرؤوس المخضع أن يتكلّم؟»، وهو نص رسالة صدرت ترجمتها الفرنسية، وجعل كاتبتها عصيةً على التجاهل في عالم الفكر النقدي، وسأعود إليها بعد قليل. وكان على المترجم الفرنسي جيروم فيدال وعلى دار نشر أمستردام أن يختارا المذكر أو المؤنث لهذا العنوان الذي يعود إلى عام 1988، وأحسنا صنعاً عندما اختارا المؤنث «المرؤوسات المخضعات». ولوضع قفلة لهذا الموضوع والانتهاء من هذا التقديم البيبلوغرافي، يجب التنويه بأن هذه القيمة تصاحب عمل غياتري سبيفاك كله. وأعادت المؤلفة النظر في نص 1988، وأجرت عليه زيادات وإضافات اقتبستها من بعض المناقشات. ويشكل النص الجديد جزءاً مهماً جداً من الكتاب المتعلق بالعقل المابعداستعماري. ويضفي كل هذا على شخصيتها صورة أولى دقيقة ولكنها غير كاملة لا تكفي لتوصيفها. وهي صورة لإحدى المكافحات والرائدات في التيار الكبير للدراسات المابعد استعمارية التي اعتمدتها منذ مدة طويلة جامعات العالم برمته، وبالتأكيد الجامعات الأنغلوساكسونية، وأيضاً الجامعات الآسيوية وجامعات أمريكا اللاتينية والجامعات الإفريقية والإيطالية، إلخ. وقبل أن أنهي، أذكر أيضاً الجامعات الفرنسية، وإن أخذت هذه الدراسات تسميات أخرى، وللأسباب ذاتها جزئياً: فقد زاملتْ في جامعة كولومبيا ادوارد سعيد، وهومي بهابها وستيورات هال إلى حد ما، وصارت أعمالها اليوم معروفة هنا ومدروسة. إلى جانب ذلك، وقبل أن انتقل إلى حوارنا، أودّ أن أشير إلى منحى من مناحي نشاطات غياتري، منحى يتقاطع مع المنحى السابق في وجوه عديدة، منحى لا نُرجعه بكل بساطة على العالم الجامعي، حتى إذا كنّا في جامعة مفتوحة على الآداب، وعلى شبكات مختلفة من النقاش النضالي، إلخ.. إن غياتري - وهي بنغالية وهندية الأصل ولم تتوقف في جميع الحالات عن زيارة بلادها والعمل فيها - أسست فيها منذ سنوات سلسلة من المدارس التجريبية لتعليم أولاد الأقليات الإثنية في البنغال(2)، وتشرف عليها هي وفريق من الأساتذة والمناضلين والمربين، أي أنها توزّع وقتها بين أقصى طرفين في النظام التربوي في عالمنا الآن، بين أبعد طرفين يمكن تصورهما إلى حدّ ما، وبين عالمين. وتعمل ذلك، انطلاقاً من قناعاتها وتلبيةً لها، وهي قناعات مناضلةٍ نسوية ملتزمة تناقش في وضع المرأة في شتى قارات الأرض الآن. 

كيف نفهم الإخضاع؟

اتيين باليبار: تتعلق السلسلة الأولى من الأسئلة بكيف يجب أن نفهم مقولة الإخضاع - وهي مقولة تحتل مكاناً مركزياً في أعمال غياتري سبيفاك - وتطبيقاتها وامتدادات هذا التطبيق في المداولات الفلسفية والسياسية أيضاً. ومن هذه الزاوية التقيت بها وقادني الحظ منذ مدة طويلة إلى الإحالة إليها في كتاباتي. ثم أودّ التكلم عن الأهمية النظرية والعملية التي توليها لمسألة الترجمة، وسأحاول ربط هذه المسألة بتفكير موازٍ حول وظيفة الجامعة وحول تطوراتها والعمل الجامعي، في عالمنا اليوم.

ثم آمل أن تتبقّى لنا بضع دقائق للتطرق لموضوع ثالث ليس العولمة أو العالمية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما بالأحرى طريقة موازية لطرح مسائل العولمة، ولاسيما عندما نحاول أن نفهم لماذا تفضّل غياتري سبيفاك وآخرون غيرها ومنهم بول جيلروا مصطلح "كوكبية" على المصطلحين الآنفي الذكر والشائعين.

لنبدأ بمسألة المرؤوسات المخضعات. تصرّ غياتري سبيفاك على تقديم نفسها كمناضلة نسوية من العالم الثالث، وهذا يقتضي حالاً أن يؤخذ بعين الاعتبار تعقِّدُ التصدي للقهر والسيطرة؛ وترى سبيفاك أن بعض التقاليد، لاسيما في أوساط النسوية الغربية، تميل إلى إخفائها، ونجد في كتبها عبارات صريحة، لا بل سجالية في هذا الشأن، وهي عبارات تريد أن توحي لنا أن هناك حركة نسوية مسيطرة، وإذا قلّدنا بسخرية عبارة ماركس الشهيرة، نستطيع أن نقول إنها نسوية المسيطـِرات في آن؛ وهذا ما يثير المفارقة الكبرى التالية: كيف يستطيع أفراد ومجموعات وهيئات اجتماعية أن يتواجدوا في عالم اليوم وعلى طول التاريخ؟ هذا يتعلق بالمنظور الذي نتبنّاه، فإما أن نكون من هذه الجهة أو تلك بالنسبة لعلاقة السيطرة وإما أن نكون في موقع ملتبس جداً، هذه النسوية هي في عمقها نسوية غربية، وتعترف غيتاري سبيفاك أنها تعلمت منها الكثير؛ وفعلاً ترجع إلى جميع الأسماء الكبرى، ولاسيما تلك الأسماء التي تندرج في ما سمّي بـ "النظرية الفرنسية" (French Theory)، ابتداءً بسيمون دي بوفوار ووصولاً إلى جوليا كريستيفا وهيلين سيكسوس، وفي نقدها القاسي أحياناً، ليس من الوارد الانتقاص من الخطاب بكل بساطة، وإنما إظهار حدوده وإبراز خفاياه، بصورة ما. هناك أشكال مختلفة لتوصيف هذه الحدود؛ هذه هي النقطة الأولى التي يسرني أن تجيب غياتري عليها إن شاءت. النقطة الثانية تقول: إن هذه النسوية "التاريخية" الوافدة من الغرب والمولودة في فرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة، أي البلدان التي كانت في الفترة نفسها تشكّل مراكز الاجتياح الإمبريالي والهيمني في العالم، قد جوهرت الفرد المسيطر عليه والمقهور مع أنها كانت تنطلق باسمه أي أنها - حتى في فروقها الإثنية والتفكيكية - قد اعترفت بجوهر المرأة وبقهر المرأة، وعلى الأقل بشكل كليّة مجردة تلاحظ تحقق هذا القهر واستدامته وأخذه أشكالاً متماثلة في شتى أصقاع العالم، أكان ذلك بالتالي في بلدان العالم الثالث المسيطر عليه أم في بلدان العالم المسيطـِر. وبذلك أستخلص النتيجة القائلة بأن مصالح المقهورات - لأن القهر واحد وفي كل مكان - هي واحدة أساساً، وبأن تلاقي أشكال نضالهن وتعبيراته يتم بعفوية، وبأن الخصم، مهما تبرقش ومهما اختلف لأول وهلة، يبقى في الأساس واحداً في كل مكان. وهذا ما نستطيع تسميته بأطروحة "العدو الأساسي"، إذا اقتبسنا اللغة الحازمة التي استعملتها كريستين ديلفي(3)، إن لم نقل اللغة الفظة. وتسري الإمكانية الأخرى، على ما يبدو لي، في عدد من نصوص غيتاري سبيفاك - وهي إمكانية تزعج التأويل الأول هذا - أي أن هناك - وللمفارقة - نسوية غربية مسيطِرة (ويجب أن نقول هذه الأشياء بصراحة وبقوة) تبنّت، شئنا أم أبينا، على مستوى شكل يفكّر في الكلي وفي الاختلاف في آن، خطاباً محيِّداً في الأساس، ونظراً لذلك فإنه - وهنا المفارقة - سجين رؤية الرجال، التي يمكن أن نطلق عليها كلمة "الذكورية"، دون أن يؤمن بها أو يريدها.

ولسببين، تبدو هنا الأمور دقيقة جداً. والسبب الأول هو أن البرهنة التي ظننتُ أنني توصلت إلى تأويلها على هذا النحو، تمرّ بتفكير موارب حول ما اقتبسه خطاب نسوي غربي من فلسفة بقيت في الأساس فلسفة رجال، حتى عندما حاولتْ بصدق ونزاهة كبيرين أن تنتقد أفكارها المسبقة. والاسم الأول الذي يخطر على البال هو بالطبع اسم ديريدا. وأنوّه بأن غياتري سبيفاك قد أصبحت معروفة أولاً بترجمتها إلى الأمريكية كتاب "في النحوية"(4)، لديريدا الذي شكّل جزءاً من ثقافتها وأثار اهتمام العالم كله بعملها، ثم بتأويلها هذا الكتاب من خلال "مقدّمة المترجمة". وعلاقتها بأعمال ديريدا حاضرة دائماً في تفكيرها الذي يتبنى هو أيضاً التفكيكية، ومع ذلك قالت لنا مراراً عديدة: هناك حدود في وجهة نظر ديريدا تتعلق باختلاف الجنسين. وذهب بها الأمر أن كتبت قائلة إن التفكيك عند ديريدا - ومثلاً في كتابة "البطاقة البريدية.."، وهو من النصوص الآسرة التي يتكلم فيها عن تفاوت الجنسين في التواصل واضطرابهما واختلافهما، في العلاقة الاجتماعية إذن - بقي متشبثاً بتصور مثالي عن المرأة. والتصور المؤمثـَل للمرأة وهو بالتحديد تصور ذكوري.

إذا ذهبنا إلى النقطة القصوى في هذا النقد - وربما أشدّد على الأشياء إلى حد ما، ولكنني أفعل ذلك عمداً للوصول إلى مسألة الإخضاع وإنهاء الحديث بها - نصل مغرضين إلى الفكرة القائلة بأن المرأة بامتياز، لكونها الشيء الذي يدور حوله إكراهان أو قهران يمكن أن نجدهما في وضع زوجة العامل وفي وضع المرأة في المجتمعات الفلاحية التقليدية، أي جميع النساء اللواتي يمارسن عملين في اليوم، إذ يعملن في الإنتاج وفي الإنجاب، أي نساء العالم الثالث. ولتقويم وتصحيح الاختزال والتجريد والثغرات في شكل من أشكال النسوية الغربية، يجب أن نقلب وجهة النظر رأساً على عقب وإعطاء الكلام لهؤلاء المرؤوسات بامتياز، أي نساء العالم الثالث. وتدركون أنني أطرح هذه المسألة لأسأل نفسي إن انتقلنا من جوهرانية إلى أخرى ومن جوهرانية مكوننة ومثقفنة ومغربنة إلى جوهرانية عالمثالثية ومناهضة للغرب، على الأقل لأسباب "استراتيجية". وكلمة "استراتيجية" هذه لها أهمية قصوى وتستعملها غياتري سبيفاك دائماً في كتاباتها، تارة للتشديد على وقع خطابها، أي لخلق بُعدْ نضالي ونزاعي، وطوراً لإضفاء طابع النسبية والتوصيف والتعيين الشديد للظروف التي نشأ فيها هذا الخطاب.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: في البداية سأسألك أولاً - سمعتُ تماماً ما قلته - عن عبارتك: "من جوهرانية إلى أخرى".

اتيين باليبار: في نهاية تقديمي، ولأعطي لمسألتي الشكل الأكثر تبسيطاً واستفزازاً، تساءلت لأعرف إن لم توجد هذه الحركة.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: ويتعلق سؤالي الثاني باقتباس بعض الأشياء من فلسفة الإنسان، هذان هما السؤالان.

اتيين باليبار: (ضحك): أجل. أرى أن النسوية التي تنتقدينها ليست في نظرك دائماً سجينة، إلى حد ما، في تبعيتها لفلسفة ذكوريّة.

غياتري سبيفاك: تتكلم عن تبعيتي أنا؟.

اتيين باليبار: لا أقصدك وإنما أقصد ديريدا أكثر منك!

غياتري شكرافورتي سبيفاك: لِمَ لا؟ ولكنني موافقة تماماً معك: طبعاً هناك جوهرانية عالمثالثية، وجوهرانية مكوننة ومغربنة وأوافق أيضاً على أن النسوية تقتبس من فلسفة ذكوريّة. وأبدأ حديثي بأنني لست فيلسوفة على الإطلاق. إنني ناقدة أدبية (Literary Critic) بالمعنى الأنغلوساكسوني لهذا الاختصاص، أي أننا نتعلم في النقد الأدبي ما هو مفرد وعصيّ على التحقق منه (singular and unverifiable). إنه درس شاق جداً، منذ خمس وأربعين سنة وأنا أدرّس، عملت كل ما في وسعي لوضع نوع من الإناطة، بالمعنى الذي قصده فرويد عندما يبدأ الإنسان بتعلم التحليل النفسي، قال: «يجب عليك أن تنيط نفسك، لأنك تتعلم على يد المحللين». وهذه الإناطة هي نوع من السدهانا (sadhana) أي أنها اجتهاد لاناطة الذات بغية التعلم. كيف نستطيع أن نتعلم مما هو مفرد وعصيّ على التحقق منه؟ هذا ليس تحقيقاً في الفلسفة.

انطلاقاً من أنني لست فيلسوفة، سأروي لكم هذه القصة: انتهيت مؤخراً من ترجمة كتاب «فصل في الكونغو» لايميه سيزير (وهي الترجمة الثانية). ليس الكتاب نسوياً ولكن المسألة، رغم كل شيء، هي كالتالي. إن "لومومبا" الذي تكلم عنه سيزير لا يمكن التحقق منه، إنه نزوة رفاق خفيفي الظل. لا نستطيع النظر في كلماته لنعرف إن كانت صحيحة. على غرار الجيل الأول المابعداستعماري والملتزم تماماً بالمعركة، كان لومومبا يؤمن بالقومية كوسيلة للوصول إلى الحداثة، خلافاً لحركة ما بعد الحداثة التي نجمت مطالبها عن الأوضاع الداخلية في الدول القومية القديمة، أو عن التطلعات النضالية المنطلقة من العاصمة. المشكلة الحقيقية لم تكن معارضة التنوير وإعلان الجوهرانية الثقافية، وإنما بالأحرى استخدام التنوير المخرَّب والمفسَد لتغيير العبء الكابوسي "للثقافة" (يجب أن تفهم على أنها الممارسات الثقافية الموسومة بـ "الأصيلة"). وعندما أتى تشي غيفارا إلى الكونغو كان متلهفاً لتدريب الناس؛ ولكنه قال إنهم لا يريدون أن يتدربوا لأنهم كانوا يريديون أن يتبعوا "داوا" (Dawa)، إلخ.. ولقد قتلت الاستخبارات المركزية الأمريكية كلاًّ من لومومبا وتشي. وقتل الأول عن طريق منظمة الأمم المتحدة، وأيضاً عن طريق كاتنغا بيزنس. ولم يندرج لومومبا تماماً في "ثقافة" الكونغو. أما الآخرون القتلة فقد كانوا غائصين تماماً في الثقافة. في جنوب إفريقيا، قدمتُ نظرية لم تعجب الجمهور الحاضر. لقد دعوني مباشرة بعد رفع الابارتهايد لإلقاء محاضرة عن الحرية الجامعية، وأنا قلت لهم بالإنكليزي ab-use Enligtment. وفعلاً السؤال المطروح: "هل يستطيع المرؤوس المخضَع أن يتكلم"؟ هو سؤال يطرح الطابع المفسَد للجوهرانية الثقافية، من الداخل.

اتيين باليبار: استعمال التنوير وحرف استخدامه، أليس كذلك؟.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: لكي نقوم بعمل كهذا، يجب الدخول فعلاً في بروتوكول التنوير. ويقوم الجهد بالبحث عن هذا الإكراه المزدوج. وهنا تكمن المشكلة: ذلك أن هذا التعارض الثنائي هو تعارض بين جوهرانية وأخرى، لأننا لا نستطيع أن نعمل دون الاصطدام بالجوهرانية، هذا غير ممكن. في كل عمل يرتبط بالحياة والفكر، نحتاج إلى الاضطلاع بـ "أشياء" و"أفعال". هناك أشكال من الجوهر، مهما كانت ضئيلة.

تكلمتُ عن جهد آخر يركز على المفرد وغير المتحقـَق منه، أي على الفضاءات الأدبية الكبرى المعقولة واللامعقولة، أي على مجال الفضاءات "القابلة للتسامي"، وعلى "فاعلي هذا التسامي" في الخيال. يوجد نوع من الحدس في التسامي يحوّله إلى شيء تجريبي، لاسيما إن كانت هناك مشاكل ثقافية في حين أن الخيال الأدبي هو نوع القبول بالتسامي، وأستعمل هناك كلمة "التسامي" كما استعمله كانط في "الاستنتاج التساموي"، وهو أمر ضروري لبرهاننا، ولا نستطيع أن نُنتج له أية بديهية، ويجب أن ندرك أن أساسه يبقى خارج إدراكنا. يرى الكثيرون أن هذا يؤدي إلى الاعتقاد. ويتضمن الاعتقاد التزاماً كيانياً (التأكد من أن التسامي هو نوع من أنواع "التجريبية"). والخيال الذي يسخر من البديهية يجعل الاعتقاد أمراً مؤقتاً، ويقيم بالتالي نوعاً من محو التسامي. وأتكلم عن الحدس لأن معظمنا - ونحن متأكدون من الأساس العقلاني لقناعاتنا - يرى أن هناك شعوراً (وهذا حدس وليس استنتاجاً) بأن شيئاً غير محدد يحتل مكان الصدارة، لا بل يلعب دوراً حاسماً، لأننا بحاجة إلى تغييبه، كي نستطيع أن نحكم.

وبناء على ذلك، عندما نشرت كتاب "هل يستطيع المرؤوس المخضَع أن يتكلم؟" (Can the Subaltern Speak?)، لم أكن معنية بتقديم رسالة ما بعد استعمارية. كان الكتاب رسالة لمقاومة الهندوسيين، كان محاولة للتصدي لثقافتي. وكما يتجلى في الكتاب، كتبت هذا النص وألقيتْ المحاضرة "هل يستطيع المرؤوس المخضع أن يتكلم؟" للمرة الأولى عام 1983. وكان الهدف الإفلات من التأثير الفرنسي، ولكنني كنت مخطئة، أعمل الآن على تبسيط ديريدا. على كل حال، عام 1981 تساءلتُ كيف أصبحتُ خبيرة في "النسوية الفرنسية" وفي التفكيك، وقلت لنفسي: "انتبهي، يجب أن تعملي شيئاً، يجب أن تجدي من جديد هنديتك". عندئذ كتبت "هل يستطيع المرؤوس المخضع أن يتكلم؟".

اتيين باليبار: لقد كتبت "هل يستطيع المرؤوس المخضع أن يتكلم؟" كي تحاولي العودة إلى الهندية ليس بشكل جماهيري وأعمى، وإنما، على العكس من ذلك، بطريقة نقدية تتضمن بعداً نقدياً للجوهرانية الهندية.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: بالطبع. كان هناك اشياء يجب نقدها، لأنها تتعلق بتقاليد معروفة جداً في العالم، كتقليد الهندوسية، "الثقافة الكبرى"، لقد وجدت شخصاً من طبقتي - وهذا الأمر صار معروفاً الآن - المرأة التي انتحرت كانت أخت جدتي. صَعُبَ عليّ جداً أن أكتب هذا الكتاب. حاولت الإفلات من أوروبا انطلاقاً من فضيحة وقعت في العائلة، فانتقدتُ التقاليد. في تلك الفترة، لم أكن أعرف شيئاً عن الهند. صحيح أنني هندية، ولكن دون أن أكون اختصاصية في الشؤون الهندية، وانطلاقاً من ذلك صغتُ هذه العبارة التي أحبها الجميع. وقلت لنفسي: بما أنني لا أعرف شيئاً عن الهند، سيكون من الأسهل عليّ أن أبدأ بالكتابة، إنْ تمكنتُ من اختزال الموقف إلى جملة، كما فعل فرويد في كتابه: "إنهم يضربون طفلاً". وهكذا صغت هذه الجملة" "الرجال البيض أنقذوا النساء السمراوات من الرجال السمر"، ذلك أنني كنت أجهل "المادة الهندية". ولم ينتبه أحد أنني لهذا السبب كتبت هذه العبارة، إذ كانت شهادة على جهلي. وماذا فعلت؟ اقتبست شيئاً من رجل أبيض هو فرويد فقلت: الرجل الأبيض، كي ينقذ النساء السمراوات (أي الساتيات*) من الرجال السمر (أي الهنود). وهكذا طبقتُ في هذه المحاولة ما كنت أنتقده، ولم ينتبه أحد لذلك.

اتيين باليبار: هل تسمحين بتوضيح الرهان في هذه المناقشة بإعطائه على الفور بُعده السياسي؟ ينطبق هذا البعد السياسي أولاً على الوضع الاستعماري والمابعداستعماري الذي وصفتيه ولكنه يترك أصداء مدوّية، لا بل عنيفة، في أماكن أخرى وأزمنة أخرى، ولاسيما في فرنسا. وهو يتماشى تماماً مع هذه الجملة التي أعدتِ صياغتها لتعبّري عن بنية الوضع الإكراهي المزدوج أو القهري المزدوج، لتدلّي (والمقارنة مع فرويد شديدة البلاغة) على أن المنطق الساري هنا هو إلى حدّ ما منطق تخييل، وكثيرون منّا حاولوا تطبيقه على الوضع الفرنسي أثناء الجدل الذي دار حول الحجاب الإسلامي. إذن يجب التذكير أولاً بأن الانتحار الذي تكلمت عنه كان، للوهلة الأولى على الأقل، مرتبطاً بتقليد أعتبر أساسياً في الهندوسية، أي التقليد القائل بتضحية الأرامل بأنفسهن عقب موت أزواجهن، بزج أنفسهن في المحرقة أو بطريقة أخرى في الانتحار، وتمّ توظيف هذا التقليد عبر تاريخ الاستعمار الأوروبي الذي جعل منه - ويا للمفارقة! - موضوع بناء رمزي رهيف ومؤسَّس على نزعة هندية ذات طابع استعماري، من خلال استعمال بعض الكلمات (وفي حالتنا هذه، كلمتي الساتي والحجاب) ومن خلال قدسنة الظاهرة المذكورة؛ ومن جهة أخرى، جعلت منه رمزاً للتخلف والهمجية، ومن هنا العبارة القائلة: "الرجال البيض أنقذوا النساء السمراوات من الرجال السمر": يجب على الرجل الأبيض، على هذا المستعمر والمحضّر في آن أن يهبّ - في الأيديولوجيا الاستعمارية - لإنقاذ النساء المقهورات في الحضارة التقليدية وبأعنف الأشكال على أيدي رجالهن أو تقاليدهن الجمعية أو عن طريق تقاليدهن الدينية. في هذا الصدد إذن، تضمّن تحليلك تفكيكاً وتنديداً إثباتياً للخطاب الاستعماري، للخطاب الاستشراقي ولنقلْ للبناء الأبيض، ولأسطورة تضحية النساء الهندوسيات بأنفسهن؛ وهو تنديد إثباتي بممارسة تقوم بها سلطة سياسية خارجية، وهو في آن اعتراف وتنديد صريح لأن المجتمع التقليدي هو مكان لهيمنة الرجال على النساء، أي: لأننا نرفض حق الرجال البيض في استخدام النساء السمراوات ضد الرجال السمر، هذا لا يعني أنّنا نبرّر بذلك العلاقة القهرية الموجودة في المجتمع التقليدي والتي استمرّت بعد الاستعمار بين الرجال السمر والنساء السمراوات؛ هل هذا هو المقصود؟.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: كي نتابع هذا المنحى نفسه، سأقول إن كلمة White ليست هنا اللون. حالياً في العولمة، يجب القول إن هذا يعني وصفاً لنوع من أنواع السياسة. ولا يتعلق الأمر بالألوان إطلاقاً.

من يتصرف؟ لستُ مستعدة إطلاقاً لإعطاء الحق بإنقاذ النساء السمراوات، إلخ...

اتيين باليبار: لستِ فقط غير مستعدة لإعطاء هذا الحق، ولكنك ترفضين هذا المشروع القائل باستخدام النساء السمراوات لسحق الرجال السمر.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: إطلاقاً. عندما قلت: "الرجال البيض أنقذوا النساء السمراوات من الرجال السمر"، نوّهت بأنني طبّقت ما انتقدته. ولم يشعر أحد بعائديته. إنها مشكلة قراءة. عندما نقول ذلك، يجب أن نعلم أنه يعني معارضة سياسية مؤقتة ترتبط بوضع سياسي خطير جداً، ويجب أن نقول ذلك بكثير من الصدق. لشخص يعمل في الأدب، الحقيقة شيء معقّد جداً، لأن السرد الخيالي ليس "التباين، التعارض"، فهو ليس من مشتقات الحقيقة. السرد الخيالي لا يُشتق من حقيقة لتعزيز هذه الحقيقة. يجب التشديد على كلمة "مشتق"، لأننا لا نستطيع أن نترجم هذه الفكرة بقولنا: "بحد ذاتها" أو "على أنها كذا"، أو "دون أساس".

عندما نلتزم بهذا الشعار في السياسة: "الرجال البيض أنقذوا النساء السمراوات من الرجال السمر"، نحن في مكان يختلف عن هذا السرد الخيالي. السياسي نوع مهم من السرديات الخيالية. عندما نقدم على ذلك، نعي ونشترك مع الناس الذين يقاومون معاً الفكرة القائلة بأن الخطأ يؤسس للتصرف. لقد ذكر اتيين ما عملته في المدارس الابتدائية في القرى. منذ خمس وعشرين سنة وأنا أقوم بهذا العمل، ولكن كتاب "هل يستطيع المرؤوس المخضع أن يتكلم؟" كُتب قبل ذلك. بيد أن البنية التي وصفتها فيه هي ذات البنية المستعملة في "التربية الانتخابية". (تقول قناة CNN إن الهند هي أكبر ديموقراطية في العالم). القطاع الأكبر من الناخبين الهنود يتكوّن من الفقراء، تعلم أنني لست أمريكية، عندي جواز سفر هندي. كل إنسان له تصويت، وأنا أيضاً: في هذا الموضوع مساواة رياضية، ما يجب أن نعلّمه هو هذا النوع من سياسة التخريب الصادقة، والذي يعمل أن هذا التأسيس هو خيالي، ولكنه لا ينحدر من حقيقة سلطوية.

أريد أن أقول شيئاً آخر، تكلمت عن عثوري على شخص ينتمي على طبقتي.

اتيين باليبار: طبقتك لا بل زمرتك الدينية المغلقة (Caste/Classe)؟

غياتري شكرافورتي سبيفاك: إلى عائلتي. بعد هذا، ومع هذه المدارس والعمل النضالي بدأت رحلة طويلة استكشفتُ فيها المرؤوسين المخضعين، حسب عبارة غرامشي، أي أولئك الذين لا يصنعون الدولة. هنا يستحيل التعامل مع النسوية، بالمعنى الدقيق للكلمة. مع الفقراء، يجب حقاً أن نتبنى وجهة النظر "ذات الدروب المتعددة"، وذات الإشكاليات المتعددة. ولكن على مستوى الفقر هذا، لا توجد نساء بحد ذاتهن. وأعني بذلك أن قهر النساء متجذر في تاريخ القهر البشري بعامة بحيث يترتب علينا أن نفكر معاً في الأشياء المتفاوتة، بدلاً من أن نعتمد على النساء. وعندما قلت: "على هذا المستوى"، لم أفكر في حركة طالبان أو في أية مجموعة أخرى تتعزّز بمقاومتها سلطةً مهيمنةً، مع العلم أن مسألة "إنقاذ النساء" كما يقال، ليست المسألة الوحيدة. بعد قضاء خمس وعشرين سنة في عمل كهذا كان يجب أن أتغير. وبدأ هذا التغير في كتاب "هل يستطيع المرؤوس المخضع أن يتكلم؟" مع امرأة. قالت: "إن المرؤوس قد أزّم وضعه الإخضاعي". كيف تصرفتْ؟ لقد انتقدتْ الذين أخضعوها. وهذا لا يندرج على المرأة في بلدان العالم الثالث. لقد تمّ إخضاع انتيغونا، مع العلم أنها أميرة، كيف استطاعت هذه المرأة في كتاب "هل يستطيع المرؤوس المخضع أن يتكلم؟" قد أزّمت وضعها كمخضَعة؟ لقد انتظرت طمثها لتثبت أن الانتحار ليس ناجماً عن حملها من رجل. إن آسيا جبار، في كتابها "نساء مدينة الجزائر في خدورهن"، كتبت عن امرأة وقفت على مشارف معركة كبرى قائلة: "ليتنا نستطيع فقط أن نوظّف هذا الجسد المتفرّج وحده"(6). هل نستطيع أن نوظّف هذه الفتاة التي انتظرت أربعة أيام لتنتحر ونصرّح قائلين: "لستُ ملكاً لرجل واحد، لا أقتل نفسي لأنني..؟".

بعد ذلك كان عليّ أن أسافر إلى القرى لأكتشف حقيقة أقوال غرامشي، أي أن تجريدات الدول في ديموقراطية من الديموقراطيات هي مِلك المواطنين. إذا كانت هذه العملية معطّلة، فإننا نُخضع السكان. هذه هي المسائل التي تشغلني حالياً. بصفتي عضواً في مجلس إدارة "بكين 15+"، فإنني أتعامل مع تجريدات كوزموسياسية. وأعني بهذه الكلمة "الإدارة العالمية" Cosmo-polities وفي عملي مع الناس في القرى، أعمل العكس تماماً. وأشدد على هذه النقطة: وسيلتنا الأولى في التجريد هي "النوع". وفي مهاد المعيارية المعيدة للإنتاج، إنها الوسيلة الأولى التي بها نمارس التجريد ونبني المجتمع البشري. يجب الربط بين هذا الأمر وبين وضع المواطن في أكبر الديموقراطيات في العالم لأنه لا يعلم أن تجريدات الدولة تخصه وبين الاثنين، هناك نوع من النسوية لا يصرّح به في "بكين 15+".

سألتـَني عن طرفي النقيض. إنهما متغايران. إن مشروع "الهيكل العملي لبكين 15+" يبدأ ببناء معاناة الطبقة الفرعية النسائية واعتبارها مجموعة موحدة من الأشياء القابلة للفهم، كي نتمكن من برمجة التصحيحات، من خلال إطلاق الرأسمال: النساء والفقر، تعليم النساء وتدريبهن، النساء والصحة، العنف الممارس على النساء، النساء والنزاع المسلح، النساء والاقتصاد، النساء في صنع القوة والقرار، آليات تطور النساء، حقوق النساء الإنسانية، النساء ووسائل الإعلام، النساء والبيئة، الطفلة البنت. هو قبل كل شيء مشروع معرفي ذو طبيعة إدراكية. أستطيع أن أتعاطف مع الحاجة، لا بل أستطيع أن أتبنى الطريقة بشكل من الأشكال. ولكنني أرى أننا نستطيع التفكير في واقع تصحيحي إلا إذا اعترفنا بالفارق العلمي - المعرفي بين المرؤوس والنخبة، ونزلنا إلى المعترك والتطوير. بهذا المعنى يكون الطرفان دوماً متباينين.

اتيين باليبار: ولكنّ هذا يدفعني إلى أن أحاول إعادة صياغة النقطة المسبّبة للصعوبة، في نظري من الممكن أن يكون هذا التوضيح ذاتياً، ومن الممكن أيضاً ألاّ أكون الشخص الوحيد الذي يرى في المسألة صعوبة، ما بدا لي مهماً جداً في الطريقة التي عالجت فيها مقولة المرؤوس والإخضاع، بالنسبة لغرامشي الذي يعتبر مرجعاً أساسياً في هذا الشأن - ويقرّ بذلك مؤرخو ومنظّرو العالم الثالث، لاسيما الهنود منهم، وكذلك مدرسة "دراسات الإخضاع" Subaltern Studies (رناجيت غوها، ديبيش شكرابارتي، بارثا شاترجي..)، هو أنك دخلت في فترة ما في حوار نقدي مع عملهم. وإذا بسّطنا الأمور كثيراً، نستطيع القول إنّ مداخلتك كانت في هذه النقطة مداخلة نسوية تتبنى النمط الغربي. ومفادها أنها قالت ما يلي: لا ترون إلا جانباً من جوانب القهر ولا ترون إلا بعداً من أبعاده. تعملون داخل ترسيمة أثرتْها رؤيةٌ إناسية وثقافوية مازالت مع كل شيء ترسيمة أفقية فيها المسيطرون والمسيطر عليهم. والحال أن المسيطـَر عليهن اللواتي أهتم بهن وأطلب منكم أن تهتموا بهن، أي النساء الفقيرات في بلداننا وفي بلدي، لا يواجهن علاقة إخضاع واحدة، بل علاقتين؛ وإذا استعملنا مصطلحاً استراتيجياً وسياسياً، هذا يعني أنهن مضطرات إلى المحاربة على جبهتين. لهذا السبب عدتِ إلى انتيغونا من جهة، وإلى الفقراء من جهة أخرى.

أرى السبب تماماً. لأن هذه المواقف - والأمر تحليلي نوعاً ما - بسيطة ظاهريا، وتتجسد السلطة في صورة وحيدة، وفيها تستطيع هذه السلطة أن تتكلم بلسان واحد - ودون أن تحشري نفسك في هذا الخيار المستحيل الذي وصفتيه ونعرفه جيداً هنا، ودون أن تغرقي في مواقف أخرى طُرحت كثيراً حول مشاكل الحجاب الإسلامي والتي أعيد طرحها حول البرقع، أي كيف نعمل لنقاوم محاولة إبادة ثقافية دون القبول ببساطة بهيمنة ذكورية. أعيد صياغة سؤالي بالشكل التالي: ما أراه جيداً هو كيف يكون للمخضَعة جسد واحد. ولكن يصعب عليّ أن أفهم الصوت الذي تطلقه، أو كيف تجد صوتها. ويبدو لي أنك خطوتِ هنا خطوة جانبية، أو خطوة إضافية تستند إلى خلفية فلسفية تدين كثيراً لديريدا - وأقول إنها إيجابية - وتدين لنقدك الفكرة التالية: ما يهمّ فقط أصلاً في مشاكل التحرر هو إعطاء صوت للذين حُرموا من الكلام، لأن أصواتهم سُحقت وغيّبت، إلخ.. تقولين أصلاً إن إعادة الصوت ليس أمراً بسيطاً. هنا تقومين بنقلة نحو الكتابة: كل صوت هو كتابة، بشكل من الأشكال، وهذا يتضمن تعقيداً أكبر من صرخة الاحتجاج. صوت انتيغونا هو أيضاً كتابة. ثم انعطفتِ نحو مسألة الترجمة الموجهة للجمهور الغربي، وحول مسألة الكتابة (وليس فقط الصوت) لدى امرأة من البنغال، امرأة طبعاً فقيرة. المشكلة هي أن يعرف الإنسان كيف يجد صوته، عندما لا يقاوم قهراً واحداً وإنما أشكالاً من القهر، ويُعتبر كل منها ذريعةً للآخر.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: أدرك فعلاً أننا نكتشف الآن هذه التجربة القديمة، لأنه يتهيأ لنا أنها تصف الوضع في فرنسا والنمسا، إلخ.. ولكنني أقول إن نقد الاستعمار الماضي هذا لا ينطبق مباشرة على الأوضاع الراهنة هنا.. يجب ألا ننسخ العبارات نسخاً أعمى، ولهذا السبب أسهبتُ مؤخراً في وصف الظروف التي ولدت فيها هذه المحاولة وأفرزت هذه العبارة: الرجال البيض ينقذون النساء السمراوات من الرجال السمر".

اتيين باليبار: بودي أن نترجمها كالتالي: "يرغب البرلمان الفرنسي في إنقاذ النساء المحجبات من الرجال الملتحين".

غياتري شكرافورتي سبيفاك: لا تستطيع رغبتنا في الترجمة أن تبرر ما يجب أن نفعله. عندما نريد أن نترجم بطريقة مناسبة فعلاً مقتبساً من سياق آخر في جملة مطابقة، يكون ذلك من باب التسهيل المعرفي، وهذا ما يفلت منا في الترجمة ويجب مطاردته. أي يجب أن نغيّر الاتجاه نوعاً ما. اسمح لي بالتشديد على هذه النقطة: يجب علينا أن نعي أن الوصول إلى الحراك الطبقي يستطيع أحياناً أن يغيّر المشكلة الثقافية. تعلمت هذا باتصالي بالسكان الأصليين في غرب استراليا. إنهم يستعملون عبارة "lost our language" (لقد ضاعت لغتنا)، ليعبّروا عن تحول اللغة إلى واقع، رافضين الاندماج في مجتمع مدني آخر. مثل هذا الموقف لا يحظى بشعبية كبرى. المسألة هي الحراك الطبقي، لأنها تتضمن مسألة الدولة. فعندما يوجد حراك طبقي في وضع كهذا، قد تتحوّل صيغة المضمون (ليس بالمعنى الذي قصده ج. أوستين(7)، ولكن بمعنى استدلالي يحوّل الثقافة إلى طبيعة) إلى تميّز، أي إلى متاحف، ومعارض، ونبذات من السيرة الذاتية، ولغات إلخ.. إن الطبقتين الوسطى والعليا راضيتان عن هذا التحول وعن هذه الطريقة في استثمار الثقافة. لا نستطيع أن ننسى أن فرانز فانون بدأ عمله لأن الفرنسيين لم يعترفوا به كـ French Gentleman (فرنسي ظريف). وندين له كثيراً لأنه كسر هذا الإكراه النرجسي في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"(8). مسألة التوصل إلى حماية الثقافة عن طريق الجدل القانوني تتداخل كثيراً مع مسألة التوصل غير المحصور فقط باقتناء رأس المال، وإنما الحصول على الحراك الطبقي.

 

إجابة على سؤال في القاعة، وضّحت غياتري سبيفاك مقولة لغرامشي تعتبر أن الناس لا يؤدون وظيفة الدولة:

غياتري شكرافورتي سبيفاك: ورد هذا في حاشية صغيرة دوّنها في دفتر معتقله وتتعلق بعملية كتابة التاريخ. وفي معرض حديثه عن جنوب إيطاليا يقول: إن المرؤوسين المخضعين لا يحق لهم استعمال بنى الدولة كي يعيشوا حياتهم كمواطنين. ويستنتج أن كتابة تاريخ الآخرين أصعب كثيراً من كتابة تاريخهم الخاص، ولكن هذا يتعلق بجردة لا تترك أثراً. قال غرامشي: يجب أن نتعلم كتابة السوسيولوجيا بأسلوب أدبي. ولاحقاً بدأ يهتم بمسألة إنتاج مثقفين مخضعين واعتبار المثقفين كأدوات. ووصف الوضع بطريقة هيغيّلة مألوفة، على أنها وضع جدلي بين المعلم والتلميذ (بدل التكلم عن الوضع بين السيّد والعبد). ويشغل المثقف وضع التلميذ، أما وضع المعلم فتشغله الحالة الثقافة والاجتماعية. عند غرامشي تصبح هذه الحالة نوعاً من العمل السياسي. وهذا غير موجود عند المؤرخين الهنود أو مؤرخي أمريكا اللاتينية، لقد استقلتُ من مجموعة المرؤوسين المخضعين، لأن ما يهمني هو أن أتعلم منهم كيف أتصرف، في حين أنهم يفضلون القيام بأبحاث تتعلق بالمرؤوسين المخضعين. وقع نقاش بيني وبينهم. لقد أطلق غرامشي فكرة مذهلة فعلاً. نعرف الفرق الأنتيكو - الأونطولوجي عند هيدغر ولم أكف عن التشديد على الفرق العلمي - المعرفي. عندما ناقش غرامشي مسألة كتابة التاريخ الإخضاعي، أطلق الفرق بين الطريقة والمنهج. قال: هناك فرق كبير بين كتابة التاريخ التي أمارسها الآن، أنا أنطونيو غرامشي، وبين المنهج الذي يسعني أن أطبقه لأنني أنا غرامشي، لم أتعلم أن أقارب المرؤوسين المخضعين عن طريق "جردة لا تترك أثراً"، وهذه هي عبارته الشهيرة التي بيّن فيها عجز المرؤوس المخضَع عن المشاركة في آليات الدولة المتشابكة.

سؤال: أكرر شكري لك على هذا العرض الواضح جداً [...] أود أن أعرف كيف تحددين موقعك بالنسبة لما نسميه في فرنسا بـ "حركة مابعدالاستعمار"، وبالدراسات المتعلقة بها. هل تعارضين التسمية وكيف تشاركين في هذا التيار وما هي الصلة التي تقيمينها بين أبحاثك وعملك النضالي في منظور الدراسات المابعداستعمارية؟.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: ليس عملي مع المدارس في الوسط الريفي بعمل مابعداستعماري، بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا في المنحى الكرونولوجي الطريف. حصلنا في الهند على الاستقلال عام 1947، وتمّ هذا منذ عقود. في المناطق المدقعة الفقر حيث أعمل، لم يشاهد الناس المحتلين الإنكليز. ذات يوم، وبمناسبة الاحتفال بيوم الاستقلال - وهو يوم متواضع جداً في هذه المناطق المعزولة - طرحت السؤال التالي على طالبين أو ثلاثة: "ما هو الاستقلال؟" فأجابوا: "لقد دحرْنا الإنكليز وطردناهم من الهند"، فأضفت: من هم البريطانيون؟" ماذا فعلوا لكي يُدحروا ويطردوا من الهند؟"، فأجابوا: "لم يتركونا نلهو في يوم الاستقلال؟". بالنسبة لكم، كالكوتا هي مدينة الفقر، هي مدينة قذرة.. إلخ، كل هذا صحيح. بالنسبة للهنود الريفيين والفقراء جداً، كالكوتا هي مدينة المدائن. إنهم يدركون جيداً من هم رؤساء زمرتي الدينية المغلقة ويعون القهر القادم من طبقة النبلاء الريفية الصغرى اليوم أكثر مما يعون أولئك الإنكليز المتوهَّمين الذين لا يتذكرونهم إلا في يوم الاستقلال، كشعائر إلهية صغرى من فترة ما بعد الاستعمار. المشكلة أن زمرتنا الدينية المغلقة - من الهندوس - قد قهرت هؤلاء الناس منذ آلاف السنين. أما الاستعمار، فكان قبل أمس. ومنذئذ، لم يبقَ للناس وقت كافٍ ليفكروا في الإنكليز، أظن أن ما بعد الاستعمار قد أنتج أشياء ممتعة جداً. نحن الآن في نوع من العصرية التي يترتب علينا فيها أن نعتبر المقولات القديمة مثل: "الحداثة والتقليد" و"الاستعماري وما بعد الاستعماري" أصبحت غير صالحة. إذا نظرنا إلى العالم ووضعنا جانباً المشاكل الخاصة بحفنة من الدول القومية في أوروبا - مهما كانت مهمة (هل لاحظتم على الخريطة كم أن حجم أوروبا ضئيل؟) هي ومستعمراتها السابقة - نلاحظ أن الفرق بين الاستعماري/ما بعد الاستعماري لا يشكل المقياس السائد في التحليل السياسي. ليس من الضروري أن نفرض المشاكل الأوروبية المحلية الجسيمة للغاية لنفهم احتياجات العالم برمّته. أكان ذلك في الفكرة السائدة في القمة أم على مستوى تغذية القاعدة الضيّق والإخضاعي، حيث أعمل، فقد نأى الماضي الاستعماري وصار جزءاً من حكاية طويلة جداً. القمة والقاعدة غير متجانستين، ولكن لا تشكل مقولة: "ما بعد الاستعمار" لكليهما الوسيلة الفضلى في التحليل، وفي هذا الأمر، أذنبت بلدان أوروبا المركزية، ولكنها فقدت تمثيلها الآن. 

حول الترجمة:

اتيين باليبار: أريد أن أسألك عن الطريقة التي ترين فيها وظيفة وأهمية الترجمة في العالم الكوكبي اليوم، ولاسيما في الجامعة، دون أن تقتصر عليها، الحوار الذي دار منذ قليل يدفعني إلى صياغته بطريقة أخرى: قلت إن الهنود قد طردوا الإنكليز من بلادهم منذ ثلاثة أجيال وإن هذه السيطرة الإنكليزية - إذا ما نظر إليها بعد ترك مسافة لها - شكّلت فترة قصيرة في تاريخ مديد (ألفيات) من العلاقات الطبقية وعلاقات الزمر الدينية المغلقة، صحيح أن الإنكليز غادروا، ولكن اللغة الإنكليزية لم تغادر. لم تغادر فقط، وإنما بدونها لا يوجد نظام سياسي هندي، نوعاً ما؛ فلا يمكن العمل في كنف ديموقراطية واحدة، ونظام برلماني واحد، وإدارة واحدة، بالنسبة لمليار ساكن هندي يتكلمون 150 لغة مختلفة، منها 24 لغة رسمية، والحال أن الإنكليزية حامل كبير يتكلمها 10% من الهنود، لأنهم تعلموها في المدارس، كما ذكرتِ منذ قليل. هذا وضع ما بعد استعماري ذو طابع خاص، وفريد بلا شك، لا مثيل له على الأرجح - أو على الأقل في الدرجة نفسها - في أية بقعة اليوم من بقاع العالم الذي قُضي فيه على الاستعمار، وأخص بالذكر هنا المستعمرات الفرنسية السابقة، ولكن هذا الوضع يشكل بنية إكراهية بامتياز لا أقول إنها بنية قهرية فقط، ذلك أنها تعطي إمكانيات تواصل واضحة، على الأقل لجزء من الشعب الهندي، مع باقي العالم، كيف توصَفين هذا الوضع من ناحية علاقات السيطرة ومن ناحية الانعكاس على الأشكال الحالية للإخضاع؟.

غياتري شكرافورتي سبيفاك: إن مشكلة الإنكليز ليست تماماً مشكلة ترجمة انطلاقاً من الإخضاع. اللغة الإنكليزية هي لغة من لغات الهند. إذا ذهبت إلى المحكمة العليا في الهند تسمع الناس يتكلمون الهندي والإنكليزية التي تشكل جزءاً من شبه القارة. ولكن التعليم الابتدائي والثانوي، على الصعيد الإخضاعي، يُفترض فيه أن يؤمّن ما بين 10 و14 سنة تعليم بالإنكليزية، الإنكليزية ضرورية للحراك الطبقي. وعلى الرغم من هذا الجهد، لا يمتلك الطلاب ناصية اللغة الإنكليزية، بسبب الكتب المدرسية غير المناسبة، والطرق التدريسية الفقيرة للغاية، وغياب الالتزام الحقيقي الكامل لتحسين هذا الوضع.

الإحصائيات التي تقدمها الحكومة والمجتمع المدني مزوّرة، وأستطيع أن أثبت هذا التصريح، إنْ لزم الأمر. المسألة أيضاً ليست مسألة ترجمة، وإنما مسألة تربية، مع وجود هذا العدد من اللغات، من الرائع فعلاً ألاّ تنشب ثورات لغوية في الهند. وذلك بفضل وجود لغة إنكليزية فوق المستوى الطبقي. أستطيع أن أقارن: شاهدت على التلفزيون، في السنة التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات، أن عباسي مدني كان يتكلم العربية الكلاسيكية، في حين أن الاشتراكيين كانوا يتكلمون عربية البلاد، أو اللغة العامية. هذا عكس حجّتي.

ثالثاً: أستطيع أن أتصوّر عولمة "جميلة" لا تنسوا أنني أعمل في الأدب، إنني أؤمن بالسرد الخيالي الأصيل.. إلخ، اليوم كل ما لدينا هو بالطبع عولمة رأسمالية، وربما هي عولمة حتمية ولكن العولمة بعجرها وبجرها يجب أن توحّد الشكل. أظنّ أن الأدب أو الآداب لا يمكن أن تعولم، ويتعيّن علينا أن نكافح للحصول على شيء إضافي يختلف عن الشكل الموحّد للعولمة. إنني أترجم إلى الإنكليزية. ولسوء الحظ نلاحظ أن الترجمات إلى الإنكليزية هي عنصر مسهِّل يستطيع أن يتملّص من هذه المسؤولية. لذا أقول إنه يجب أن نخترع مرة أخرى الترجمة كممارسة، وأن نفضّلها على العنصر المسهّل، كما أفضل جميع الأشياء التي أدعمها: إن هذا النوع من الترجمات المعمقة بين اللغات والمؤسسة على تعلّم اللغات، صار مستحيلاً. وأمام هذه الاستحالة يجب على العمل أن يستمّر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الساتي، كلمة هندية أطلقت على الأرامل اللواتي كنّ يحرقن أنفسهن بعد موت أزواجهن، وحظرت هذه العادة عام 1829. (المترجم *

1- Le Pares Chandra and Sivani Chakravorty Memorial Education Project

2- Christine Delphy, l’Ennemi principal, 1 & 2, rééd. Syllepse, Paris, 2009

3- Jacques Derrida, De la grammatologie, les Editions de minuit, Paris, 1967 ;

[Of Grammatology (translation, with critical introduction, of Derrida's text) (1976);

4- Jacques Derrida, La carte postale. De Socrate à Freud et au-delà, Flammarion, Paris, 1980 ;

5- Assia Djebar, Femmes d’Alger dans leur appartement, Ed. des Femmes, Paris, 1980 (p.154) ;

6- Gayatri Chakravorty Spivak précise que le « performatif » a été établi philosophiquement par J.L.Austin dans How to do things with words ? Ed. J. O. Urmson. Oxford: Clarendon, 1962, traduit en français par Gilles Lane sous le titre Quand dire, c’est faire Le Seuil, Paris, 1970.

7- Frantz Fanon, Peau noire, masques blancs, Le Seuil, Paris, 1952 (réed. Point Seuil)

8- Frantz Fanon, les Damnés de la terre, La Découverte, Paris, 1961