اسم الأشباح

التهجير و الجسد والترجمة في فضاءات العنف المتطرف

Eugénia VILELA

المترجم : LAARISSA Mustapha


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

"لا أحد يقفز فوق ظله،
لا أحد يقفز فوق منبعه- أصله،
ولا أحد يقفز من فوق فرج أمه"

باسكال كوينيار

يكشف لنا التاريخ المعا صرعن  مشاهد مفاجئة ، حيث الجدران التي تقام للفصل بين الأفراد والأمم تعمل على خلق أقاليم غير متكافئة . فتحت شعار المد اللامتناهي  لإنسانية في حالة عبور، عمل النظام السياسي والاقتصادي المعاصر على خلق فضاء اللامكان : هذا الفضاء ، وهو يطمس  دلالة  مكان من الأمكنة، يحوله إلى إقليم مخصص لمن تم اجتثاهم : نحن إذن  أمام حيز مفتقد لمن كانت نشأتهم به. في هذا السياق يتم خلق نماذج يتم ربطها على نحو عميق بمجال إقليمي معين: بصفتهم محولين أو لاجئين أو منفيين أو تائهين. وهذه النماذج البشرية كلها ، تتحدد دلالتها عليها استنادا إلى  مجال قارsédentaire و من خلال شكل إطلاقي  للعقلانية حيث خرائطية cartographie الهوية المتجانسة والرافضة للغريب ترسم أقاليم  قابلة للتجزيء.

إن تزايد حجم اللاجئين، أمواتا أو محولين حدث يتحدد معناه بالإحالة إلى إقليم لا يعرض فقط لمفهوم جغرافي، ولكنه يعلن عن مفهوم حقوقي- سياسي يرتسم من خلاله مجال تراقبه سلطة محددة. فعبر  الإحالة الضمنية إلى الخطوط المتحجرة لهذا الإقليم، يختزن كل خطاب ، بفعل ذاكرته الثقافية والحقوقية والسياسية،  صورة خاصة عن الجسد الذي يقوم باستقباله،  فكل خطاب يتوفر على شفرات يتم بواسطتها  التعرف على شخص من قبل شخص آخر، مشكلا على هذا النحو موضوعا قابلا للقراءة في بداهته المادية. داخل هذا المسرح الخطابي، تعمل السياسة المعاصرة على خلق مجالات للإهمال، تحاول عبرها تحويل الأجساد المتفردة إلى مجالات عضوية للتدمير.

ومع ذلك، في مقابل هذه الخرائطية القارة cartographie sédentaire لتدبير المعنى، هناك أجساد مستعصية،  أجساد أولئك الذين يواجهون هذه الجغرافيا بفضاء تجربتهم الجسدية  ،انطلاقا من حيز متحرك للدلالة . يتشكل التاريخ إذن كعودة دائمة للآخر،  هذا الآخر الذي يتطلب حضوره مساءلة النماذج والممارسات الخطابية الشائعة. إن الذين لا وطن لهم ’ وكذلك المقصيين واللاجئين والمحولين من مكان إلى آخر، ووجوه عدة ممن يهشمون أنظمة السلطة والحقيقة – هم منحرفون بالنسبة لمركز ينطوي على معنى سياسي واجتماعي واقتصادي متداخل. فمن داخل فضاء قار للعقلانية،  يضعنا وجود هذه النماذج وجها لوجه إزاء حركة تعرض السردية التاريخية للتصدع.  فهذه الوجوه تتحرك - دون توقف- في مجال ترسم فيه  الذاكرة  خرائطية مادية للغة مغايرة  قريبة مما قد يسميه دولوز، في إحالة  إلى فوكو، ب"الوجه" الآخر لتجربة اللغة: كتاب لا تتم كتابته إلا على الجسد ، و كتابة قوامها الدم والصمت.

الوجه النقيض للتاريخ:الحكي الآبد للمعنى

ينبني التاريخ الغربي في الزمن المعاصر على تجربة الفقدان أو الضياع. فاستنادا إلى  خلفية نمو اقتصادي  دون المستوى المطلوب ، و إلى تحريض على العنف المتوارث ، تخترق القارات تشنجات ناتجة  عن الصراعات المتعددة ( اضطرابات اجتماعية، حروب،توترات دينية و إثنية وقبلية) تلقي بالساكنات المدنية نحو الهجرة الجماعية . في كل المجالات الجغرافية يتحول التنقل والهجرة والحشد في مراكز الاحتجاز أو الاعتقال والملاجئ إلى حركات تستأصل المعاني السياسية للممارسات الخطابية المتعارف عليها. ، فلا يمكن لحركات التنقل والتيه هذه باعتبارها نتيجة عنف كامن  أن تخضع لتأطير جهاز   يسمح  باستيعابها. وحتى  لو أن خاصية الاستقرار التي تطبع  أجهزة التأطير هذه تنكتب في الكتلة  المادية للوقائع التي تحددها هذه الأجهزة- كانتظامات قادرة على قلب ما هو حدثي - فإن النسق المرجعي للمفاهيم  الذي يوجد بحوزتنا يتوقف عن دعم مادية الوقائع تلك.

كيف يمكن الحديث عن واقع   متحول  عندما تعجز الألفاظ المتاحة  عن تعيين واقع  هو في طور الانبثاق، أي  عندما لا تسمح الأدوات المفاهيمية التي نتوفر عليها  لنا بالتفكير في ما تتضمنه التمظهرات  الصراعية التي  تميز الفضاءات الزمنية ، حيث يصبح الأصل  نفسه هو  التنقل والترحال. علينا حسب فوكو أن نفكر في العلاقات التي نعجز عن التفكير فيها  انطلاقا من اللحظة الحاضرة  وفق ما يمكن  أن تكون عليه , و هو ما يعني أن كينونة شيء ما إنما هي   صيرورته ،   دون معرفة [قبلية] بنهاية عملية الصيرورة.

إن التاريخ الغربي، وهو يتنقل ضمن محور عقلانية كليا نية  تقوم بتحديد توجهات خطية للزمان نحو لحظة قصوى تتم فيها المصالحة مع الذات، يعرض نفسه كسرد م آبدsédentaire . فحكاية التقدم في هذا السرد  تتناسى  الدينامية الخاصة بوقوع الحدث.وبالضبط يحدد التقدم فكرة كمال  مسار "الإنساني" التي تسمو عن كل شك،  وفق عملية شرعنة هي  من وضع الممارسات الخطابية المهيمنة. "إن تقليد traditionالمضطهدين (بفتح الهاء) يخبرنا بأن "حالة الاستثناء "التي نعيش فيها هي ما يشكل القاعدة. علينا التوصل إلى تصور للتاريخ يسمح بإدراك هذا الوضع"(والتير بنيامين ، 2000،433).

وبمواجهة مع  وضع الاستثناء هذا و الذي نظل نعود إليه باستمرار وكأننا تحركنا قاعدة متغلغلة في الاستحالة الدالة للاستزادة ، يتخذ التاريخ شكل مفهوم يحاول أن يرسخ في إقليم سردي آبد sédentaire   عملية خلق الدلالات التي ينتشلها البشر من الذاكرة.ورغم ذلك لا تفتأ الهمجية تعود على نحو هوس استحواذي. لقد أظهر التاريخ نفسه بعنف  أن الإنشاءات السردية الكبرى تحتوي دوما على قدر من  الصدع، ,وأنها   تخيلات  للذاكرة  والمعنى :" يكتب التاريخ، ولكنه يكتب دوما من وجهة نظر المقيمين الآبدين ، وباسم جهاز الدولة الموحد (بكسر الحاء)[...]فما ينقصنا هو علم أو منطق للترحال nomadologie، نقيض التاريخ ذاته"(دولوز و غواتاري، 1980،34).

أمام التاريخ الذي يقدم نفسه كسرد آبد للمعنى توجد صيرورات تشكل أحداثا راسخة في تاريخية الحاضر وكأنها جراح متنقلة . إن الصيرورة- والتي يسميها دولوز فعليا بكونها مجموع البشر الذين يتملصون من السلطة باعتبارها هيمنة، أولئك الذين ينتفضون ويقاومون ، دون موقع  أو عودة معلنين – هذه الصيرورة تتشكل من أحداث تقطع مع التوجه الخطي للزمن التاريخي وتعيد خلق ملامح لمعنى متنقل. إن عمليات المقاومة تتخذ بالضرورة طابعا  ترحا ليا:

" عندما نقول بأن للثورات مستقبل وخيم، فإننا لم نقل شيئا يخص المستقبل الثوري للبشر.وإذا كان  الرحل قد استرعوا اهتمامنا إلى هذا الحد، فلأنهم يشكلون صيرورة لا مجرد جزء من التاريخ ، إنهم يقصون  من هذا  التاريخ ولكنهم يحولون أنفسهم للظهور من جديد على نحو مختلف، وتحت أشكال غير منتظرة  عبر  خطوط الانفلات المتواجدة   بالحقل الاجتماعي"(دولوز، 1990، ص209).

إن علم ترحال المعنى هذا،  لا يعني أن عدم استقرار حركة التاريخ تفترض استسلاما سياسيا أو جماليا، أو لامبالاة إزاء حركة الزمن المريبة حيث تصبح كل الأحداث متساوية من جراء إضفاء النسبية المطلقة على القيم . إن علم الترحال  يفترض ضرورة تأمل الحدث باعتباره محور التفكير، وهذا لا يعني قط الخضوع لنظام  ما هو عرضي .فهذا الفكر الذي يعارض شكلا من الفكر -  ينعثه دولوز بفكر العالم الكلاسيكي- يتجذر في نمط خلاق  من العدوى بين ما ليس بفكر وما هو فكر بالفعل.

غير  أنه، في سياق شكل الفكر الخاص بالعالم الكلاسيكي – المتطابق مع فلسفة  التمثيل représentation  - يتحقق الإلمام  بواقعة أو إحساس أو موضوع أو معرفة  عبر حركة تمثيل تقوم نسبيا  بالاستناد إلى مبدإ تنظيمي يتم بموجبه - وفق بعض الخصائص- توزيع الأشياء والأحداث و الذوات. من خلال   هذا الشكل في استعراض الفكر ،يتحدد التماثل le même  وفق توزيع استراتيجي – للدنو أو التباعد – تجاه نظام يجسد الوحدة التي تنبثق من خلالها الأشكال المتعددة للمعرفة والسلطة . وعليه ، يتم تصور الفكر من خلال نموذج استراتيجي للتموقع داخل المجال : فحسب نمط مستقر  للتوزيع يتم رسم  الهوية   بفضل الموقع النسبي الذي تحتله بالنسبة لمجال دال ومحدد وفق مبدإ تنظيمي أساسي. ومن ثمة ضرورة توفر مبدإ للاستحضار  تبدو من خلاله دلالة واقعة أو موضوع دلالة  مؤسسة بناءا  على تجديد للقاء  بالمتماثل le même الذي يقوم الاستحضار برعايته.

تحت هذا النمط من التنظيم القار للنظرة، سيعمل الفكر الغربي على إنشاء أقاليم لإضفاء الشرعية – أقاليم معرفية وسياسية واجتماعية وهرمينوطيقية - حيث تتم المطالبة بإقصاء كل الذوات والمواضيع والأحداث التي تشكل مقاومة في وجه أنظمة الحقيقة هذه. ينمو الفكر إذن في حلقية مرجعية ترسم عن طريق التجربة مختلف  اللقاءات المتجددة بالأشكال الموجودة سلفا بوصفها شرط إمكان تجربة ما . فقبل أن  يتم عرض الظاهرة أو الموضوع في وجودهما المتميز ، تسمح هذه الأشكال بالتكهن بهذا الوجود ،وباستباقه أو الحكم عليه. هكذا ينبسط المجال الدال كمجال قار مطابق للتمظهر المهووس  لإرادة للحقيقة، و يتم تشكيلها عبر ملامح نظام أساسي يتوجب إرساءه بعنف في  قلب الذوات و الأشياء. إن هذه الفضاءات لا تعمل إلا على عرض سياسة للتدمير المبرمج للآخر، سياسة مستندة إلى جغرافية الخوف، حيث يتبدى الجسد من ناحية كمفعول- موضوع  - لتمركز السلطة وتطورها ، ومن ناحية أخرى كعنصر أساسي لألاعيب السلطة والحقيقة.

في مقابل هذا المجال الدال ، القار والعنيف، والذي يرسخ  فهما أصم للعالم ، تنكشف استعادة الحدث بوصفه محورا للفكر كأمر أساسي، وذلك لكون المجال العمومي، مجال القابلية للمشاهدةespace de visibilité - الذي تعتبره حنا أرندت شرطا ضروريا لكل حياة سياسية- لا يوجد كمجرد فضاء مسرحي، إنه مرتبط بالأفعال التي تخلقه، وبالمشاركة  السياسية لكائنات متفردة. وهذا الانفتاح لا يفترض اختيارا نظريا فحسب،بل يفترض الاضطلاع بحساسية سياسية  تساءل  انطلاقا من لحظة الحاضر، حكي  السلطة  حيث الترجمة تهجر أمكنة التاريخ.

فضاءات للإهمال: أين نوجد عندما نكون في لامكان؟

إن تاريخ الانتظار في مخيمات اللاجئين شبيه باعتقال تدريجي للشعور وللنظرة في زمن يتحول إلى فضاء جامد. فليست الأجساد ولا الفضاءات برموز: فحسب نمط يشوبه الغموض، تفهم الحياة على أنها  مجال للتدخل السياسي والحقوقي كما يفهم الجسد كمجال لانكتاب نسق  مرتبط  بقانون  منظم . بهذا المعنى  تقدم  مخيمات اللاجئين- باعتبارها حالات استثناء تميز البيو-سلطة le biopouvoir المعاصرة-  كفضاءات مسرحية  يمارس بها  نوع من الصمت المؤسس كأداة للسلطة. في هذه الفضاءات ينمو شكل من النرجسية الاجتماعية يقود ، خلافا للنرجسية الذاتية إلي نوع من الاستسلام المميز لشكل السلطة المعاصرة: إنه شكل الإهمال والتخلي . إن الجسد البيوسياسي  يقبع في فضاءات للإهمال  ليعرض- حسب عبارة لأغا مبين -تداخل  الحيواني والحياتي zoé et bios الذي يبدو على أنه يحدد المصير السياسي للغرب.1 و بتحديدها كشكل للتبعية المنغرسة في قانون منظم  وجاثم في فضاءات الإهمال ، ومن الآن فصاعدا، تتواجد  الأجساد العارية والجائعة كموضوعات لفعل تطبيعي يمارس من طرف شكل مغاير   للسلطة . يتأسس القانون المنظم إذن" ككلام/ جرح" ، فباعتبارها كتابة للقانون الذي يحدد نطاقها، يكون القانون المنظم منفصلا ع البعد الأصلي الذي يسنده الكلام. إنه علامة الانتماء التي تنقض  الغيرية.إن المنطوق الذي تنتظم على أساسه  فضاءات الاستثناء  ليس منطوقا لدينامية تخص التضمين والإدراج، ولكنه منطوق يتعلق بمرسوم للتخلي يضعه نظام تدبير زجري ينطبق جهرا على أجسام الكتلة الحية . في محاولته تجاوز الفرق البارز الذي يقيمه فوكو بين صيغة التعبير الخاصة بنمط السلطة السيادية الخاصة بالدولة القائمة على التراب _ القتل والإبقاء على الحياة- ونمط التعبير في البيوسلطة المعاصرة- التكفل بالحياة والإذن بالموت ،يشير أغامبيين إلى انبثاق صيغة ثالثة تعلن عن خصوصية البيوسياسة في القرن العشرين:

"ليس التقتيل وليس الإبقاء على الحياة ولكن الإبقاء بالكاد على قيد الحياة ، ليس الحياة وليس الموت ولكن إنتاج ما يشبه حياة قابلة للتشكيل وغير متناهية هو ما يشكل النشاط الحاسم للبيوسلطة في عصرنا الأمر يتعلق الأمر  كل مرة   بفصل  ما هو عضوي عما هو حيواني في الإنسان وما ليس بإنساني عما هو إنساني[...]. إن الطموح الأكبر للبيوسلطة هو تحقيق الفصل المطلق بين  الحي و الناطق في جسم الإنسان ، بين ما هو حيواني وما هو بيوسياسي ، بين اللاإنسان والإنسان: إنه الإبقاء المجرد على قيد الحياة" (أغامبين، 1999: ص.ص 204-205)

من خلال استراتيجية الحفاظ على الأجساد الحية- إطعام الجسد الجائع ومعالجة الجسد المريض- ينشأ   فعل  مضر للسلطة السياسية : إنها ترسخ في لحم الجسد المتعدد العقل البيوسياسي والمعاناة الصامتة عن طريق الحرمان من الكلام. في هذه الفضاءات ليس للكلمات وجه خلفي ، كما أن تماسك اللغة الخاصة تتهدم تحت التأثير المضل لنحو خاص بالسلطة  يتم بموجبه التكفل بحق الكلام  نيابة عن الضحايا، وكأن  عالم الضحايا هذا مشهد كئيب خارج كل انتماء بشري.

في كتابه :" الأمس، اليوم"- والذي موضوعه المركزي هو الشتات الصومالي  على إثر الأزمة التي ستجبر الصوماليين في بداية التسعينات من القرن الماضي  (1990)على اللجوء إلى بلدان أخرى – يحاول نور الدين فرح استعادة أصوات اللاجئين و المنفيين و الأشخاص الذين تم تحويلهم على نحو مفاجئ،    يقول  :" هي ذي حكايات أمة تم احتجازها, محيط من القصص التي يرويها صوماليون يوجدون في حالة البين-بين "( فرح،2001: ص.20). يفتتح فرح كتابه بذكر التمرد الذي يغشى وجوه من فروا من الصومال وصولا إلى كينيا2. لقد غادر أبوه  وأمه موقاديشو، يسيران وراء الحشد البشري الهارب لبلوغ كينيا عن طريق البحر، بفضل باخرة تكدس فيها  الناس3.  هكذا وجد فرح نفسه في مخيم مومباسا (مخيم أوتانج) صحبة صوماليين لم  يتبق لهم إلا ذاكرتهم  المتهرئة  . لقد كانوا يتحدثون  دون انقطاع عن الرعب الذي  أفلتوا  منه في مزيج من الوهن والاكتئاب. وعندما سأل فرح أحد اللاجئين عن الكيفية التي يتصور بها نفسه كلاجئ، أجابه هذا الأخير:" أظن أن الليل قد أسدل ستاره على حياتي، ليل مبكر يغرقني في ظلمة دامسة استحال فيها كل تمييز".(فرح، 2001، 41).

لقد كان اللاجئون يفرون في شكل أمواج بشرية، وعبر واحد من  هذه التدفقات وصل محمد عبدول إلى المخيم ، فهو  صومالي الجنسية   سافر لمدة أربعة أيام مابين الساحل الصومالي ومومباسا.وقد روى محمد أن موقاديشو تحولت إلى مجزرة. فبعد التدهور التدريجي لمستوى شروط الحياة، وبعد فساد القيم الاجتماعية وانحلال مدينة كونية والقضاء على الدولة، اتخذ العنف مظهرا لا نظير له . عنف مشهدي مس بكل الملكات البشرية، من الذكاء إلى الشم ، نظرا لمئات الجثث الملقاة على الأرض التي بقيت دون دون دفن والتي ظلت تتعفن بأزقة المدينة:" عندما تتم معانقة اليأس المطلق، فحتى  أنواع الصخب والسكون التي تعمر المدينة  تأخذ دلالة مختلفة" ( فرح : 2001، 56)

كان محمد،  في لحظة من اللحظات،  يعجز من شدة ألم الذكريات الحديثة العهد عن الكلام. يرتعش جسده بكليته بكاء، تمزقه المعاناة والغضب، فيغرق في الصمت. وعلى نحو فجائي يعود ليسترسل قائلا:"إن ذاكرتنا تركز على أهوال الماضي، وما يوجد في لب تفكيرنا هو تقلبات المستقبل، لأننا نخشى  مواجهة مصيرنا المضني.وأثناء ذلك يضاعف فينا  الذعر الذي يسكننا مخاوف من كل صنف، وهذه  المخاوف بدورها ترهقنا وتحاصرنا بضراوة.و لقد بدأت استشعر منذ وقت مخاوفي لفترة طفولتي ، كالخوف من الظلام أو من الأماكن التي كنت  أجهلها على سبيل المثال، فهي تلاحقني باستمرار  وتقضي على محاولاتي لعقلنة الأمور"(فرح، 2001، ص. 56)

لحظات صمت تقطع شهادة محمد لتتوقف   بالمرة في طور معين، و تترك المجال لنوع آخر من الصمت، صمت ثقيل يعلن عن اضطراب يستحيل التحكم فيه. ينهي محمد روايته وقد هزه الألم من الأعماق قائلا بأنه يتمنى، لمصلحة الصومال برمته، بأن يصادف فرح شهودا أعلم منه ، وأن يبوح له هؤلاء بكل ما ينبغي معرفته حول العنف الذي وقعوا ضحية له بموقاديشو,ثم يترك فرح ليذهب إلى حال سبيله دون أن يضيف كلمة واحدة.

في مخيم أوتانج، كان من الممكن التعرف بسرعة على أصل اللاجئين. فمن ناحية، هناك اللاجئون  المنحدرون  من الطبقة الوسطى، والذين لم يكن  مخيم اللاجئين بكينيا بالنسبة لهم إلا  مجرد نقطة عبور من بلدهم نحو منفاهم بأوربا أو بأمريكا الشمالية. ومن ناحية أخرى (و لنقل الجانب الأكثر عددا، توخيا للصدق).

هناك سكان القرى الفقراء والمهاجرون القادمون من تخوم الصومال، فهم شبه أميين، جاهلين لنمط الحياة الحضرية، مجردين من كل امتياز"لقدا تم استئصالهم بصفة نهائية ، وكأن شعور الاستلاب قد رصد لهم كمينا ليوقع بهم في الفخ. فمظهرهم  كئيب، وأظافرهم قذرة ومتآكلة ، وجلدوهم متجعدة ، ونظراتهم تائهة في الفراغ"( فرح، 2001، 83).

مع مرور الوقت، أصبح استقبال اللاجئين الصوماليين بكينيا يوما بعد يوم أكثر صعوبة، . أحيانا، يقضي القادمون الجدد أكثر من أسبوع على ظهر الباخرة التي استعاروها للرحيل. يتنقل المسئولون في المفتشية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة باستمرار بين  الباخرة ومقر المفتشية حيث السلطات بمومباسا  على اتصال مستمر بسلطات نيروبي دون التوصل إلى اتخاذ قرار، ذلك أن الحكومة الكينية تحاول – قبل أن تسمح لهؤلاء اللاجئين بالعبور- أن تحصل على أعلى تعويض ممكن من الأمم المتحدة."، و يظل الصوماليون على صمتهم  في كبرياء ووقار ، فاللغة تبدو عاجزة  أمام هول مصابهم ، وسكوتهم يجعلهم شبيهين بمن ألبس ثوب الحداد ، في انتظار استعادة فقيد في قماش العلم الوطني وقد استحال إلى كفن"( فرح، ص. 92).

إن السلطة وهي تنتشل الأجساد من الكلام ومن الحلم تحيلها إلى أجساد حية ولكن قاحلة,  وهكذا يتحول البشر إلى أعراض خالصة ، فالفضاءات هذه  قطعة من الكلمات التي تلف الأجساد الهاوية إلى الأسفل   .  هذه الكائنات تزاح إلى الهامش، إنها تشكل عالما بالنفي un non-monde في مقابل عالم يرسم حدوده نظام الخطاب. إنها تمثل كتلة لإنسانية عابرة لا شكل لها ، ولمجال مجهول على أوسع نطاق يتنقل في هيئة للصمت . يتجلى الصمت على مستوي هذه الأجساد كسلسلة" تخليات" مسترسلة: تخلي عن الأجساد إزاء السلطة القانونية، وتخلي عن الرابطة الاجتماعية ،ثم تخلي عن الذات التي يشكل إهمال الجسد الساقط عرضا لها. فبالقدر الذي لا تسمح فيه هذه الفضاءات  للذوات العابرة  بأن تطور أنماطا للتعايش مع الآخر، تتمكن – كفضاءات- من الاقتراب من موقع للسلطة حيث يقام مسرح للجنون ، وحيث اندثار الآخر يقود إلى ضياع إمكانية الوعي بالذات وبالعالم. إنها أمكنة  مسطحة، أقاليم لا يستنبت فيها الكلام ،فثقل الكثافة المادية للمجال الفيزيائي، واحتراق الذاكرة ،وسقوط الجسم الذي يلتقطه ظله كلها أبعاد تضارع استحالة الكلام ، فالصمت جرح يمتد من الجسد إلى الكلام.4

في مواجهة المصير، دون كلمات

في فضاءات الإهمال هذه ، يكون  للحياة  قوام الظل ، ففيها يتم التشطيب على متانة  الرابط الاجتماعي .وباعتبارها منبثقة على مستوى الخطاب، فإن هذه التجربة السياسية   لتفتيت قوة الحياة المنبثقة تقود إلى نتائج مادية عميقة، سواء في ما يخص الأجسام الفردية أو الأجسام الجماعية . ويتم تناسي الجذور كمكان ظل مستباحا بين الأشياء والكلمات والأشخاص والمعاني. وفي عمق لحظة واحدة، يكف المهجرون واللاجئون  عن خلق المشهد من حولهم استنادا إلى ذواتهم. إن الفقدان يرتكز على إيداع الجسد والكلام في منطقة خراب حيث لا فرق بين الأزمنة، وحيث الليل البهيم يستعرض كل حركة وكأنها تنفس متقطع يشي بواقع الصدمة.5

في فراغ  فضاء لا تعريف له ولا انتماء ، تكون استحالة الكلام في العمق تعبيرا عن مكان منعدم الدلالة  مرتبط بفقدان مزدوج: فقدان الانتماء الذي يسمح بالتعرف على شكل من التقاسم قريب من تقاسم الذاكرة الاجتماعية ، وإضافة إلى  ذلك فقدان الرابط الذي يسمح بالتعرف على اللغة الباطنية القريبة من الذاكرة الفردية ، لدرجة أن التخلي هنا – بغض النظر عن التعرف على الشكل الأقصى والمستحيل تجاوزه للقانون كصلاحية عارية من كل دلالة -   هو أيضا تخلي عن الذات ، تخلي عن الرمزي  وعن الفعل بالنسبة للفرد المتميز.إنه تخلي نصبح بواسطته غرباء عن أنفسنا، حيث يتعذر علينا أن نسكن اللغة البسيطة والأصلية : اللغة الأولية.

خلال  عملية الترحيل بداخل المخيمات أو على الطرقات الجانبية التي تقود إلى الحواضر الكبرى، وعبر الانتظار والتيه اللامتناهيين، يواجه البشر اليأس عندما يواجهون  الاستحالة الفعلية  لاستعمال الكلام.  وعبر حركة خرساء للعدوى يغزو الذاكرة المتعددة والذاكرة المتفردة فضاء للإهمال عبر صمت عميق يجثم فوق الأجسام. فالصمت جرح يمتد من الجسد إلى الكلام . ليست هناك متعة للوحدة ولا قهر للذات باعتبارهما تأكيدا مفارقا للذات بوصفها حضورا، فلم يعد الحدث إلا فعلا للسقوط في الجفاف  الداخلي حيث تتحجر الذاكرات ، و يأخذ الفعل شكل التخلي عن الجسد المصارع . فالتيه فيزيقي ، إنه  تحديد  مادي للتدرب على الوحدة والموت. فعبر الضياع في جسم العالم، وفي مجال خارجي، كيف يمكن الإبقاء على الإخلاص لمجال شهد ترحيل الجسد، بينما اللجوء ليس إلا جرحا إضافيا.

إن الصمت الذي يسكن فضاءات الإهمال كواقع  مدمر هو   صمت خبيث لا اسم له ،على شاكلة  بقايا خوف يولد في لحظة يتشكل فيها التاريخ كزمن حادث للإهمال. فما بين الجسد والعالم يتعرض المجال للضياع، كما يضيع المكان لكون الرغبة في الذهاب أو المكوث يلحقها التآكل. أما الذاكرة كحيز  للتاريخ الشخصي فتصاب بالتفتت. تصبح الأجساد منحرفة أمام الوضوح، منحنية صوب الأرض حيث الظل نور لشمس معكوسة.   تتلاشى إمكانية العودة ، و تتشكل هذه الفضاءات كفضاءات مجهولة الإسم  حيث الصمت سجين تجربة  تولد الخرس بوصفه أحط أنواع الصمت. يتشكل الخرس إذن كصيغة للصمت في ارتباط وثيق بسياسات الصمت ذاتها.

يلف الصمت أجساد من عاشوا تجارب قصوى  للترحيل والالتجاء.وتنبئ  أنواع الصمت - التي تلاحق من بقوا على قيد الحياة بفضاءات العنف المتطرف- بجسامة الألم الذي لا يمكن احتواءه أو ترجمته ، ألم تكتسح فيه الرغبة -عبر جسد تحول إلى قبر- الحاجة إلى نسيان البلد والأسرة اللذين يصبحان بالنسبة له حيزا جوهريا. إن العنف البليغ قد غير في لغة الباقين على الحياة معنى بعض الكلمات وأفرغ بعضها الآخر من كل معنى . فمن حاول الإصغاء، عليه  الانتباه إلى اضطرابات المعنى هذه، وهو يشير إلى أن اللغة المتداولة السابقة عن الحدث المهول، لا يمكنها أن تضفي أية دلالة على الحادث الذي  أخرس  كل إمكانية للمعنى. يصبح إذن من الضروري إعادة خلق الدلالة المسترسلة والانطلاق من هذه الاضطرابات  الدلالية التي تفتح فوهات في جسد اللغة المحتضرة. في مختلف الحكايات المرعبة التي تروى، يتكفل هذا الصمت بصيغ تتهشم عبرها اللغة المشتركة وتتحول  لتحل محلها لغة  متشظية وملغزة.

بعد صمت طويل تخلل كلامه ، يحكي   محمد عبدول ، اللاجئ الصومالي في مخيم أوتانج بمامبوسا  قصة ابنة أخيه التي  تعرضت وهي في الثامنة من عمرها للاغتصاب، والتي  شاهدت بأم عينيها أبويها يغتالان. فقاموسها يتألف الآن من بضع الكلمات من قبيل:"ماذا؟متى؟ لماذا؟" وليس دوما على صيغة التساؤل.و يسترسل فرح قائلا:" لقد بدت الطفلة هذا اليوم في حالة شديدة الكآبة[...] كان من عادتها أن تردد من حين لآخر بعض الكلمات التي سبق لعمها أن تفوه بها، تماما كما يردد طفل في الثانية من عمره كلمة إلى ما لا نهاية. ولم تكن توجه الكلام إلي ولو مرة واحدة. وفي اليوم الذي زرت فيه عائلتها لم تكف عن الصراخ:"متى؟ متى؟" في نوع من التحدي"(فرح، 2001،57).

في هذه الأزمنة المحاصرة بالأشباح، يتحول التنفس إلى حركة تكرار لكلمة تجتر لدرجة ينتفي معها علامة التعرف عليها.إن فقدان الكلام هنا أكثر من مجرد فقدان للكلمات المتبقية بعد كل هذا الألم. فهو فقدان لما يسمح بتجربة الحداد على ما ضاع إلى الأبد. فقدان الكلام هذا ينتمي إلى  زمانا يستوطن فيه العدم الجسد، وتسلب فيه إمكانية الحداد من جراء ألم عميق، فالأسماء والتواريخ قد تم انمحائها من الذاكرة.

في هذه الفضاءات ، تقوم الحدود بالداخل ولكن دون عمق صميمي  يذكر، فوجودها يتأصل في زمن متقطع يتوار في ماضي عميق . وبقدر ما يتم الابتعاد عن الوطن ، بقدر ما يتم تحطيم الحياة الباطنية.  عندما ينعكس جسد ما يوجد خارجه يرتبط داخليا بعالم يدشن فيه الخوف أقاليم يعمل الزمان على اختلالها. فللبقاء على قيد الحياة، كان من اللازم العيش في الظل وفي الفراغ صحبة الموتى. هكذا تصبح القطيعة بين الأحاسيس والصراعات والأشخاص والأمثلة قطيعة جذرية.

في عزلة الجسد الذي يصبح اسما أخرس، وفي الانزواء داخل كلمات تعجز عن بسط كيانها، لا يتبقى إلا حاضر رتيب لألم متغلغل في الماضي المفقود بدوره. فالألم معتم لا يتجزأ، والصمت بدوره ثقيل منعدم الدلالة، والأشباح نفسها أجساد مهجورة.

ورغم ذلك، وعلى هوامش كلام منفجر تحت وطأة النظام الخطابي الذي يعتري الأجساد المهملة، يدوي الصمت كزفرة لمعنى مادي. إن الأجساد التي تسكن فضاء الإهمال حضور لجرح غريب في جسد العالم. فهذه الأجساد الغريبة تكتب صمتا كثيفا وعميقا في المسرح السياسي والاجتماعي. إنها تشكل فعلا جرحيا un geste –blessure  هو أصل لشكل حياة دون ترجمة محددة.

 إن كل فعل مقوض لنمط الزمن الخطي المتجانس يقوم بتكسير الأشكال المشروعة للدلالة. إنه يعمل على انبثاق صوت مستحيل في إمكان الواقع ، إذاك يتأتى الكلام الأولي الذي يسمح بالتواطؤ مع البدء ، في سرية الجسد السابقة عن كل تمظهر عبر سجل اللغة. وهذه اللغة العارية تجسد مجهود فكر سياسي يعمل على خلق ذاته بوصفه ترجمة و قوة في نفس الآن.

عبر الحركة التائهة للتحويل ،  - و بواسطة الأجساد- نمسك  بالترجمة/الفعل لزمن ، هو بداية لنداء لا يتوقف و للحظة تتداخل فيها الولادة والموت. فالترجمة تولد إذن من خلال العودة المتشنجة للحظة أحرقها الصمت تحيط الكائنات والأشياء، وأصلها لا يصدر الحنين إلى دلالة شاملة للعالم، ولكنه يحيل إلى معنى لا يمكن بلوغه عبر الكلام المتداول. الترجمة ذاكرة للرماد، إنها مادة لحضور يكتنفه الغياب، الترجمة بدورها جرح، إنها فعل مادي، فعل لانهائي التحديد.



1 "انطلاقا من المخيمات، تستحيل العودة إلى السياسة الكلاسيكية [....] إن إمكانية الفصل بين جسدنا البيولوجي وجسدنا السياسي،  بين ما لا يمكن تبليغه ويظل أخرس ،وما يمكن تبليغه والتعبير عنه : هذه الإمكانية تكون قد سحبت منا إلى الأبد. لسنا فقط حيوانات ضمن سياسة يراهن فيها على حياتنا ككائنات حية، حسب عبارة فوكو،ولكننا أيضا مواطنون يراهن بكينونتهم السياسية نفسها على مستوى أجسادهم"(Agamben, 1997 :202).

2 " أتذكر دموع التمرد المنهطلة فوق خدود اللاجئين. كانت أختي من ضمن اللاجئين الصوماليين  الأوائل الذين وصلوا عبر الباخرة إلى مومباسا.لقد حكت لي ما حدث بنبرة يطبعها الحزن . لقد فررنا بأنفسنا، ذلك ما في الأمر"، قالت لي عندما تلاقينا في مخيم اللاجئين في أوتانج بمومباسا.لقد غادرنا منازلنا تاركين وراءنا أفرشة مبعثرة وكراسي دون نظام ومطابخ غير منظفة  وصحون الوجبة الأخيرة دون غسيل , لقد ألقينا  بمستقبلنا للإهمال .لقد نجونا بأنفسنا بسرعة كبيرة دون أن ننشغل بوجهتنا الممكنة، سواء بالصومال بصفتنا أشخاصا تم تحويلهم، أو نحو الخارج  بصفتنا لاجئين لا وطن لهم وفارين"(فرح 2001،ص 27).

3 " لقد لذنا بالفرار لأننا صادفنا الوحش الذي يوجد بداخل كل واحد منا, و رأيناه مكشوف الوجه[...] لقد سمعنا الخوف في خطوات الفارين، يقول أبي مسترسلا. كان يكفي الإصغاء لنبضات قلوبنا، التي كانت أسرع من خطوات الهاربين لنستشعر رعبنا الذاتي.ففي نظري،كان  من الحكمة أن نلحق بحشود الفارين ونسأل بعد ذلك لماذا يفر هؤلاء الناس بدل أن ننتظ ونعرض أنفسنا   للسرقة  أو الاغتصاب، أو  يلقى بنا على قارعة الطريق جثة  من دون لحد" فرح، 2001 ،ص. 29-30).

4 يحس اللاجئون خلال الأيام القليلة التي تتلو هجرتهم بشعور الذعر، فحجم ما فقدوه ينكشف لهم بصورة مفاجئة. وفي المقام الأول، كل ما يهمهم وهم تحت الرعب هو الركود وراء الهاربين. إنهم يجلسون جماعات ويشكلون حلقات بحثا عن صحبة رفقاء منشرحين. إنهم يتكتلون جنبا إلى جنب مستظلين بشجرة أو تحت هالة فانوس منير سرعان ما يتحول إلى طوطم جديد مرادف للحياة الجماعية. يتفقد اللاجئون مصائبهم ويتذكرون، فنشاطهم ينحصر في تخصيص ملايين من ساعات الاشتغال للاستبطان ومحاسبة النفس. لذلك يحسون بالإحباط في منتهى النهار أكثر مما يستشعرونه لحظة استيقاظهم. فأن تكون لاجئا يعني أن تكون انتحاريا" (فرح ، 2001، ص. 73) " وفيما بعد، وبعد ذلك بكثير، في جنح الليل و في حلكة الظلام التي لا تعرف النوم ومع الأرق كمستمع وحيد ، يبوح  الأغلبية بهمومهم الأكثر سرية لرفيقهم الباطني الذي يعيش بين ضلوعهم[...] . فما يفصلهم عن الصومال هو سفر عبر البحر يستغرق أربعة أيام، غير أن المسافة أكبر من ّلك بكثير عندما يسترجعون ذكراه"(فرح، 2001، 73).

5 لقد تم وأد الكلام في قلب ما يشكل شرط وجوده: العلاقة بالآخر[...]سيصبح إذاك كلاما في غياب الآخر، كلاما لا يفي بالدلالة، فالألم يحول دون الإفصاح عنه. إنه يرسم الانسحاب الرمزي خارج العالم[...] فالأشخاص الذين تعرضوا لصدمة شخصية يظلون بدون صوت، فينسحبون إلى ما دون اللغة وإلى ما يستحيل بلوغه[...]ولو أن هذا الملجأ شبيه بصرخة محاصرة في صميم البدن، وتاريخا متجمدا في قلب الألم. التكلم يعني عودة إلى الرابطة الاجتماعية ، وإذن قطيعة مع  المنظومة الدفاع التي تحمي ضد تذكر الرعب"(سيبوني، 1995، 108).



ببليوغرافيا

لعدم توفر المصادر والمراجع المعتمدة في هذه المقالة  باللغة العربية، فقد ارتأينا الإبقاء عليها في اللغة التي وردت بها ،وهي اللغة الفرنسية كلغة أصلية أو كلغة للترجمة عن لغة أصلية أخرى.(المترجم)

AGAMBEN, Giorgio (1997), Le pouvoir souverain et la vie nue. Homo Sacer I. Paris : Seuil.
AGAMBEN, Giorgio (1999), Ce qui reste d’Auschwitz. Homo Sacer III. Paris : Rivages.
BENJAMIN, Walter (2000), «Sur le concept d’histoire», In Walter Benjamin, Œuvres III.  Paris : Éditions Gallimard [1942].
DELEUZE, Gilles et GUATTARI, Felix (1980), Mille Plateaux. Paris : Les Éditions de Minuit.
DELEUZE, Gilles (1990), Pourparlers. Paris : Les Éditions de Minuit.
FARAH, Nuruddin (2001), Hier, demain. Voix et témoignages de la diaspora somalienne. Paris : Le Serpent à Plumes.
FOUCAULT, Michel (2001), Dits et Écrits II, 1976-1984. Paris : Éditions Gallimard.
SIBONY, Daniel (1995), Psychopathologie du quotidien. Événements II. Paris : Éditions du Seuil.