لمن العدالة؟

معضلات العدالة في عالم ما بعد- ويستفالي

Nancy FRASER

المترجم : JOUAY Mohamed


  • fr
  • en
  • ar
  • tr
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

من بإمكانه أن يحتسب ذاتا للعدالة (a subject of justice)؟ ومن يجوز له أن تكون مصالحه وحاجياته محط اهتمام وتقدير؟ وحين يتعلق الأمر بالنضال من أجل الحصول على إعادة التوزيع الاقتصادي، أو الاعتراف الثقافي أو التمثيل السياسي، من الذي ينتمي حقيقة لمجموعة المؤهلين لمطالبة بعضهم البعض بحقهم في العدالة؟

خلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لم تكن هذه المسألة نقطة خلاف ساخنة، حيث أن النضالات من أجل العدالة كانت تتحرك على خلفية إطار معلوم. وفي تلك الفترة – لنسمها الحرب الباردة- كان من البديهي افتراض أن الكيان الذي تطبق فيها العدالة هو الدولة القومية الحديثة، وقد كان لهذا التصور "الوستفالي" حصة الأسد في الخطاب حول العدالة عبر ثقافات سياسية متباينة، على الرغم من الولاء الكلامي الزائف لحقوق الإنسان، والاشتراكية الأممية، والتضامن مع العالم الثالث1. وسواء كان الأمر يتعلق بإعادة التوزيع، أو الاعتراف الثقافي أو التمثيل السياسي، أو التفاوتات الطبقية، أو الرتب التي تخضع لها أوضاع الأشخاص في السلم الاجتماعي، أو الممارسة المشروعة للقرار السياسي، فقد كان معظم المطالبين بالعدالة يفترضون أن مدى أفق العدالة يلامس حدود جماعتهم السياسية. وحدهم أعضاء هذه الجماعة لهم الحق في أن يعترف بهم كذوات (as subjects) للعدالة بعضهم إزاء البعض. وكانت النتيجة هي الحد الجذري، إن لم نقل الاستبعاد الكلي، للواجبات إزاء العدالة، تلك العدالة القسرية التي تخترق الحدود والحواجز. وهذا الإطار تحديدا هو ما يقوم بالتعتيم والتستر على المظالم ذات الطابع غير المحلي والعابر للأوطان.

إن الفهم "الويستفالي" لسؤال "لمن العدالة؟" كان دائما يصاحبه تصور محدد للمجال السياسي، وهو عبارة عن متخيل سياسي ويستفالي. ووفقا لهذا المتخيل،  كانت المجموعات السياسية تبدو على أنها وحدات جغرافية مستقلة، تتميز عن بعضها البعض بحواجز مرسومة بوضوح . ومادام هناك ارتباط وثيق بين كل كيان سياسي (polity) بدولة خاصة به، فقد جاء تصور هذا المتخيل للدولة بوصفها كيانا قادرا على بسط سيادة تامة وشاملة على أراضيها. وحيث أن الهدف كان بالأساس هو التصدي لأي "تدخل خارجي" في "القضايا الداخلية" للدولة، فإنها كانت ترفض الفكرة القائلة بأنه يتعين على الدولة أن تتقيد بأحكام قوة عليا. إضافة إلى ذلك،  كرست هذه النظرة تقسيما صارما بين نمطين للمجال السياسي – مختلفين بصفة نوعية. فبينما كان تصور المجال "المحلي" يتحدد بكونه العالم المتمدن، المهادن للعقد الاجتماعي، والخاضع لحكم القانون ومتطلبات العدالة، فقد كان يتم تصور المجال "الدولي"- في المقابل- على أنه عبارة عن حكم "الغاب"، تغلب عليه العدوانية وتنقصه تعهدات ملزمة حيال العدالة. ونتيجة لذلك، فإن هذا المتخيل الويستفالي لا يسمح إلا لمجموع المواطنين (citizenry) الذين يعيشون ضمن رقعة دولتهم بأن  يصبحوا معنيين بالعدالة. وفي واقع الأمر، فإن رسم خارطة للمجال السياسي مثل هذا لم يسبق أن تحقق فعلا في مجموعة معينة. ذلك أن هيمنة "القوى العظمى"، والإمبريالية الحديثة كانت كافية لتكذب وتنفي الفكرة القائمة على نظام دولي يضم دولا متساوية وذات سيادة. ومع ذلك فقد فرض هذا المتخيل نفوذا جبارا، إذ تأثرت به حركات التحرر في المناطق التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار، والتي كانت تحلم بالحصول على دول ويستفالية خاصة بها.

وثمة شيء من الحقيقة في أن محامين دوليين ومفكرين كوسموبوليتيين حاولوا – وعلى مدى ثلاثة قرون- "ترويض" المجال الدولي، وذلك بإخضاعه لتنظيم قانوني. لكن جهودهم ، وإلى عهد قريب، لم تنبر بطريقة مباشرة للتقسيم والتفريع (bifurcation) الجوهري بين المجال المحلي والمجال الدولي، ولا للتباين الناجم عن هذا التقسيم، والمتمثل في حيز محدود المعالم، خاضع لقيود العدالة، من جهة، ومن جهة أخرى منطقة خارجية لا تمتثل إلى الحد الأدنى من متطلبات معيارية بسيطة. وقد كانت المحصلة هي إقرار التصور الويستفالي للمجال السياسي.

غير أن هذا التصور للمجال السياسي بدأ اليوم يفقد تأثيره وهيمنته. فمن ناحية، نجد إن طرحه لدولة ذات سلطة خصوصية وغير قابلة للتجزؤ هو أمر لا يساير الواقع، إذا سلمنا بوجود نظام لحقوق الإنسان جد معقد، ، ومن ناحية أخرى، هناك التزايد المطرد لنظم الحكم والتدبير  العالمية (governance).

والأمر التالي الذي يجب أن نضعه موضع شك هو ذلك التقسيم الحاد بين المجال المحلي والمجال الدولي، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار الأشكال الجديدة لما يمكن تسميته (intermistic) (حرفيا: تجمع بين المحلي والدولي في آن واحد)، وهي سياسات يتم ممارستها من قبل فاعلين غير حكوميين، عبر-قارين، ومن بينهم حركات اجتماعية غير قومية، ومنظمات دولية ما بين - حكومية، ومنظمات دولية غير حكومية2 (INGO).  وأمر آخر مشكوك فيه جدا هو اعتبار الإقليمية (territoriality) على أنها القاعدة الوحيدة التي تحدد الواجبات حيال العدالة، وذلك نظرا للمشاكل ذات الطابع العبر-إقليمي، من قبيل الاحترار العالمي، أو المنتوجات المعدلة جينيا، وهي مشاكل تدفع البعض إلى وصفها "بمجموعات مهددة بالخطر". كل هذا من شأنه أن يوسع أفق العدالة لكي يشمل كل من يجد نفسه عرضة لأي تأثير محتمل3. لهذا فإنه من الطبيعي جدا أن نرى نشطاء الحركات التحررية المناهضة للمظالم العبر- وطنية يرفضون الرأي القائل بأن العدالة تنحصر فقط داخل حدود قومية، بصفتها شأنا محليا يهم مواطني تلك الدولة فقط. وحين يطرحون رؤى وتصورات ما بعد –وستفالية حول قضية "لمن العدالة"، فإنهم يخضعون "الإطار الويستفالي" لقراءة نقدية متفحصة.

ونتيجة لذلك، فقد بات اليوم كل من مسألة " المعني بالعدالة" ومسألة رسم خارطة المجال السياسي موضع أخذ ورد. وبالفعل، فإن "من" الويستفالية هي الآن موضوع طعن من قبل ثلاث جبهات: "أولا"، من قبل محليين وجماعيين، ويحاول هؤلاء الذين يحصرون أفق اهتمامهم في وحدات أصغر من الدولة، على سبيل المثال، "إقليم الباسك" أو "شعوب الإسكيمو". ثانيا، من قبل إقليميين أو مناطقيين (regionalists) وعبر-وطنيين، ويقترح هؤلاء وحدات أكبر، لكن ليس بما فيه الكفاية لتكون عالمية، ومثال على ذلك هو "أوروبا" أو "الإسلام". وثالثا، وأخيرا، من قبل الكوكبيين والكوسموبوليتيين، الذين يقترحون احتساب كل البشر على قدم المساواة. وبالتالي يجوز القول أن هناك الآن أربع تصورات منافسة حول هوية "من" المعني بالعدالة: تصور ويستفالي، وتصور محلي-جماعي، وتصور بعد-وطني، إقليمي، وتصور كوني -كوسموبوليتي. وكل هذه التصورات هي في حالة صدام وتناحر. ما إن ينتهي أحد الأطراف من التعبير عن مطلبه الخاص بالعدالة – وهو مطلب مرتبط بفهم معين لمسألة "من"- حتى ينبري آخرون لإصدار دعوات مضادة، مبنية هي الأخرى عن تصورات منافسة. والمحصلة هي أن خطاب العدالة يصبح عبارة عن نشاز متنافر الأصوات، وهو نوع العدالة الذي أسميته abnormal justice – العدالة الغير- طبيعية أو "العدالة الشاذة"4.

وقد صغت هذا الاصطلاح في محاكاة للتمييز الذي أقترحه توماس كون بين العلم المعتاد والعلم الشاذ. فبالنسبة لتوماس كون، يظل العلم "معتادا" كلما ظل نموذج فكري واحد مهيمنا على آفاق البحث، حتى أن الانشقاق عن النموذج يتم احتواءه. وبالمقابل، يشهد العلم "نقلة ثورية" حين تتراكم الانحرافات عن النموذج وتتكاثر حوله نماذج منافسة أخرى. وفي الحالة الأولى، يتقاسم الباحثون جملة من الفرضيات الضمنية، التي تعطي أعمالهم صفة الاستمرارية والتقدم. أما في الحالة الثانية، فيبدو الأمر وكأن قاعدة نحوية (grammar) غير متوفرة، وتتحول جدالات العلماء إلى شيء شبيه بحوار الصم5. ومحاكاة لهذا التقسيم الذي يقوم به توماس كون، فإني أميز بين حالات "العدالة الطبيعية" المتعلقة ب"لمن العدالة". وعلى العكس من ذلك، تصبح العدالة "عدالة شاذة" حين ينعدم هذا التوافق. ويعني ذلك أن كل الذين يناضلون من أجل عدالة اجتماعية يفترضون آراء متضاربة حول هذه القضايا6. وهذه، في اعتقادي،هي  الحالة التي نحن عليها في الوقت الراهن7.

في ظل ظروف مثل هذه، ظروف "العدالة الشاذة"، لا يمكن ولا ينبغي التنظير بالطريقة ذاتها. وخلافا لكل أولئك الذين حاولوا التنظير لمفهوم العدالة في الماضي، فليس بوسعنا أن نفترض اليوم بأننا نعرف مسبقا من له الأهلية للمطالبة بالعدالة. وحتى لا نكرر ما قام به أسلافنا، حين افترضوا أنهم يعرفون مسبقا هوية "من"، فإنه يتوجب علينا أن نطرح، وبصورة جلية وواضحة، السؤال حول من له ذلك الحق. ينبغي علينا أن نتساءل: حيث أن هناك صدام بين رؤى متباينة حول حدود العدالة، كيف يتعين علينا اتخاذ القرار حول من له الحق أن يحتسب. وحيث أننا نواجه تأطيرات منافسة للصراعات الاجتماعية، ما هو السبيل إلى الحسم في مسألة وضع عادل لخارطة المجال السياسي؟ والحل المناسب، في تقديري، هو الأخذ بعين الاعتبار الجانبين معا – السلبي والإيجابي- للعدالة الشاذة. فمن جهة، كل مقاربة قابلة للتنطيق يجب أن تعطي قيمة أعلى للسجال الدائر حول "من" – التي من شأنها أن تقبل فكرة العدالة  العبر-وطنية، تلك الفكرة التي ذابت في التصور الفيستالي للمجال السياسي. ومن ناحية أخرى، على المرء أن يتعامل بحزم مع الصعوبة المتفاقمة المرتبطة بإيجاد حل لتلك السجالات التي يحتفظ فيها المتبارزون كل واحد برؤيته لهوية "من". ولنا أن نتساءل: ترى أي شكل من أشكال التنظير للعدالة قادر على الإيفاء وفي الوقت ذاته بحاجيات كلا الفريقين؟ أي شكل من أشكال التنظير قادر على فسح الطريق في وجه مطالب متجددة، وأيضا على توفير آليات للاستدراك والتقويم؟ أما الرد الذي سأقترحه في هذه المقالة فيمكن عرضه في إيجاز: إن أي تنظير يواكب العدالة الشاذة لابد وأن يتحلى بميزتين اثنين :أن يكون "انعكاسيا" (reflexive)، وأن يكون له حس تمييزي. وسأتولى فيما يلي بشرح كل جزء من هذه المقاربة المزدوجة – التي تنطوي على شقين اثنين.


 1- عن الانعكاسية بوصفها نقدا ما بعد-سياسي.
التماس الحجة لصالح مفهوم "التأطير الخطإ"

لكي نضفي مزيدا من القيمة على السجال الدائر حول العدالة الشاملة، فإن أي تفكير حول مفهوم العدالة الغير معتادة لابد وان يكون منفتحا، ومتقبلا لتلك الطعون والاعتراضات التي تقول على أن قضايا العدالة الجوهرية – سواء تلك التي تتعلق بإعادة التوزيع، أو الاعتراف، أو التمثيل- لم يتم طرحها بالشكل المطلوب. وحتى نضمن لهذه الطعون أن تأخذ مكانها في هذه المقاربة، فعلينا أن نسلم بأنه من المحتمل جدا أن تكون بعض الآليات التي تعتمد في تحديد هوية المعني بالعدالة -في حد ذاتها- غير عادلة، وذلك إما بسبب استبعاد من يستحق أن يحتسب، أو بسبب احتساب من يستحق أن يستبعد. وتفاديا لهذا، ينبغي لأي تنظير للعدالة الشاذة أن يتحلى بصفة الانعكاسية، بمعنى أن تكون له القدرة على الانزياح من موقفه حتى يتسنى له مساءلة مدى عدالة أو لا عدالة الإطارات المتنافسة. وصفة الانعكاسية هذه وحدها التي تسمح للمرء بالاشتغال على المستوى النظري –ذلك المستوى الذي يعالج إشكالية التأطير، وهي ذات الصفة التي تمكن المرء من إدراك مغزى سؤال "من" بصفته سؤالا يصب في صلب العدالة.

وتصبح الحاجة لمبدإ الانعكاسية ملحة أكثر حينما نواجه أشكالا جديدة من مطالب العدالة، تفترض تصورات للمجال السياسي لا تؤمن بالهيمنة. إن شكل التنظير الذي يناسب أوضاعا غير عادية لابد وأن يتوقف لحظة - بدل من أن يندفع إلى الأمام- لكي لا يسمح لنفسه بتجاهل المطالب المتجددة. ولإضفاء نوع من الشرعية على أي شكل من أشكال الطعن أو الاعتراض، فلا مناص من مبدإ الانعكاسية.

لكن كيف السبيل إلى توفير مبدإ الانعكاسية هذا فيما يتعلق بالعدالة الشاذة؟ سأقترح فيما يلي إستراتيجية هي في الحقيقة مجرد امتداد نٍظري لتصور للعدالة سبق لي أن صغته في مقام آخر. وينبني هذا التصور على ثلاثة أبعاد "لماهية" العدالة، تشمل إعادة التوزيع على المستوى الاقتصادي، والاعتراف على المستوى الثقافي والقانوني، والتمثيلية على المستوى السياسي، وتنضوي كل هذه الأبعاد تحت لواء مبدإ معياري أدعوه ب"التكافؤ التشاركي"8 (participatory parity). وبدلا من العودة إلى ذلك التصور بكل تفاصيله وحيثياته، فسأكتفي هنا بالتوقف عند النقطة التي تعنينا بالدرجة القصوى. وحتى أتمكن من تبيان ما هو غير عادي بالنسبة "لمن"، فإني سأركز بالأساس على جانب التمثيلية. إن الجانب السياسي للعدالة، أو هكذا سأسوق حجتي، هو كفيل، إذا تم فهمه فهما وافيا، على توفير مبدإ الانعكاسية المنشودة، الذي من شأنه أن يستجلي الخلاف القائم حول سؤال "من" في العدالة الشاذة.

والسبب هو أن البعد السياسي يكن تطبيقه على مستويين، أسمي الأول "سياسة عادية" والثاني "ما بعد-سياسية" (meta-political). وفي غالب الأحيان، يركز المنظرون اهتمامهم على مستوى "السياسة العادلة"، وهو المستوى الذي يعنى ببنيات التمثيل السياسي داخل جماعة سياسية محددة. لكن أود هنا، في المقابل، أن أركز على مستوى "ما بعد-سياسي"، والذي يعنى من جهته بالفوارق الموجودة بين الجماعات السياسية. من هنا كانت الحاجة إلى تصميم مجال سياسي أوسع. وسأقوم فيما يلي بتوضيح الفرق بين هذين المستويين.

إن مستوى "السياسة العادية" شيء معروف بالبداهة. وتعتبر هنا التمثيلية وظيفة القانون الأساسي لهيأة حكم معينة (polity)، وتتولى هذه الهيأة سن القواعد الأساسية لأي ممارسة مشروعة للسلطة داخل حدود تلك الهيأة. والحالة النموذجية، من وجهة نظر الاتجاه السائد في العلوم السياسية، هي نظام الاقتراع العام، الذي يقوم بالوساطة بين صوت الناخب والسلطة. ويقوم نظام الانتخابات هذا، بالإضافة إلى مجالات أخرى، بتهيئة المجال نحو أي شكل من أشكال الطعن. ويقوم أيضا بوضع المعايير التي يستخدمها المواطنون لعرض مطالبهم على الملإ والفصل في منازعاتهم. وعند القيام بهذا الدور، فإن التمثيلية على المستوى السياسي- العادي تعتبر الحدود القائمة خارج كيانها على أنه أمر مسلم به.

ومن حيث المبدأ، بطبيعة الحال، فإن علاقات التمثيلية الخاصة بالسياسي-العادي، هي من اهتمامات العدالة. وفيما يتعلق بهذا المستوى بالذات، من حق المرء أن يتساءل: هل هذه العلاقات عادلة؟ هل تمنح مراكز القرار نفس القدر من المشاركة في المناظرات العمومية، وكذا تمثيلية منصفة، لجميع أعضاء ذلك الكيان السياسي؟ هل كل الذين يعتبرون أعضاء يتمتعون بالقدرة على المشاركة على قدم المساواة مع الآخرين؟ حينما يكون الجواب بالنفي، فنحن أمام ما اصطلح عليه ب:"مظالم سياسية-عادية". وتنشأ هذه المظالم داخل مجموعة سياسية تكون العضوية فيها، وكذا الحدود التي تحيط بها، أمرا محسوما فيه. وهكذا تنتج تمثيلية فاسدة (على مستوى السياسي-العادي) حينما يحرم هذا النظام فئة –يعدهم أعضاء- الفرصة في المشاركة الكلية بوصفهم أندادا. وإلى عهد قريب، أدت مثل هذه المظالم إلى المطالبة بإجراء تعديلات في النهج المتبع في التمثيل السياسي، بدءا من المطالبة بنظام التحصيص أو الكوطا الخاصة بالنساء في اللوائح الانتخابية، والحقوق الخاصة بالتعددية الثقافية، والحكم الذاتي للسكان الأصليين، والانفصال الإقليمي، وانتهاء بمطالب تمس إصلاح نظام تمويل الحملات الانتخابية، وإعادة توزيع الدوائر الانتخابية، والتمثيلية النسبية9.

وبالرغم من أهمية كل هذه القضايا، فإنها لا تحيط بكل الجوانب المتعلقة بالبعد السياسي للعدالة، لأن نفس البعد ينطبق أيضا على ما اصطلح عليه ب"المستوى الما بعد-سياسي". ويعنى هذا الأخير بالتصميم الأوسع الذي يضم كل الكيانات السياسية التي تم التطرق إليها لحد الآن. وما يوضع على المحك هنا هو بالضبط تلك القضايا التي تم اعتبارها من المسلمات على نطاق المستوى السابق، وتحديدا، رسم الحدود وتعيين من له الحق في العضوية. هنا يتجلى جوهر التمثيلية في أمرين اثنين: إما العمل على احتضان أو إقصاء كل أولئك الذين لهم الحق في مطالبة بعضهم البعض بالعدالة. وإذا كانت التمثيلية على المستوى السياسي- العادي تعنى بتوزيع حصص معينة من الأصوات على أولئك الذين يعتبرون أعضاء، فإن التمثيلية على المستوى ما بعد-سياسي تعنى بإثبات مسبق لمن له الحق في العضوية في المقام الأول. وتعلمنا أيضا بمن هو جزء من، أو خارج عن دائرة من هم أهل بالظفر بالتوزيع العادل، والاعتراف المتبادل، والمعايير العادلة فيما يتعلق بتمثيلية على مستوى سياسة-عادلة.

وكما هو الحال بالنسبة "للسياسة العادية"، فإن التمثيل على مستوى المابعد- سياسي هو مسألة عدالة. وفيما يتعلق أيضا بهذا المستوى، يحق للمرء أن يطرح الأسئلة التالية: هل العلاقات والروابط الخاصة بما بعد – التمثيل غير منصفة؟ هل يتسبب تقسيم المجال السياسي إلى كيانات متباينة في حرمان البعض من المشاركة مع آخرين يتقاسمون نفس الاهتمامات؟ حينما يكون الجواب بالإيجاب، فنحن أمام ما أصفه ب: " لا عدالة ما بعد-سياسية". وتنشأ مظالم من هذا النوع حينما ترسم حدود هيئة سياسية بكيفية تؤدي إلى الإقصاء الخاطئ لبعض الفئات من المشاركة أصلا. وفي هذه الحالات، فإن من ينظر إليهم على أنهم فاقدي العضوية يتم استبعادهم بطريقة سيئة من عالم أولئك الذين تم احتسابهم –داخل الكيان السياسي- لكي يتمتعوا بكل ما يتعلق بتوزيع الثروات، والاعتراف، والتمثيل السياسي. ولا يسقط عنهم هذا الظلم، حتى ولو تم قبول أولئك الذين تم إقصاؤهم داخل كيان سياسي آخر –طالما أن التقسيم السياسي يجعل من بعض مناحي العدالة بعيدة عن متناولهم. وكمثال على هذا، نذكر الطريقة التي يستحوذ فيها النظام الدولي – الذي من المفترض فيه أن يكون مكونا من دول متساوية –والذي يوزع المجال السياسي توزيعا غير عادل، وذلك على حساب الفقراء في العالم. وحينما يحصل شيء من هذا القبيل، فالنتيجة هي نوع من تمثيلية فاسدة على مستوى ما بعد-سياسي، وهو ما أسميه « MIS –FRAMING »: "التطير الخطإ"10.

إن التأطير الخطأ فكرة انعكاسية. وبحكم تموقعها المرتفع في المستوى الما بعد-سياسي، فإنها تسمح لنا باستنطاق خارطة المجال السياسي من منظور العدالة. وحيث أن هذا المفهوم يتخذ من "المستوى الأول" موضوعا للفحص والتدقيق، فإنه يمكننا من التساؤل فيما إذا كان أي تصور "لمن" العدالة هو نفسه عادل أم لا. وحيث أن هذا المفهوم يساعدنا على استنطاق إطارات عدة للعدالة، فإنه يمكننا من تحليل كل المنازعات التي تشمل رؤى متضاربة لقضية "من". وبالتالي، فإن مفهوم "التشكيل الخطأ" يحظى بالانعكاسية التي نحن في حاجة إليها حين نواجه حالات من العدالة الغير معتادة.

إن فكرة "التشكيل الخطإ"، بالرغم من جدتها، صارت تحظى بشيء من الجاذبية في أكثر من صراع حول العولمة. ونجد آثار هذه الفكرة ضمنيا في العديد من دعاوى حاملي شعار "عولمة بديلة"، حتى ولو أنهم، ، لا يستعملون هذا المصطلح. ومثال على هذا: يدعي أولئك الناشطون القريبون من المنتدى الاجتماعي العالمي (WSF) أن الإطار الويستفالي غير عادل، إذ يقسم المجال السياسي بكيفية لا تسمح لأولئك الذين يلقبونهم "فقراء العالم" من التصدي للقوى التي تضطهدهم. وحين يوجه هذا الإطار دعاويه داخل المجال المحلي لدول بعضها لا حول لها ولا قوة، فإنها لا تنبري بالنقد للقوى الكبرى الموجودة ما وراء البحار. وهناك العديد من القوى والدول التي تفلت من قبضة العدالة. ومن بين هذه القوى دول ذات عدوانية متوحشة، وأخرى غير وطنية، تشمل المستثمرين الأجانب، والمضاربين في العملات الأجنبية، والشركات العابرة- القومية. وتتمتع أيضا بنفس القدر من الحماية الهيآت التي تتحكم في الاقتصاد العالمي، والتي تفرض معايير للتعامل ولا تعبأ حتى بتطبيقها بشكل ديمقراطي. وأخيرا، فإن الإطار الويستفالي يفرض نوعا من العزلة على نفسه، إذ أن النظام الذي تقوم عليه دولة معينة يسمح بالعدالة داخل حدوده، ولا يوليها أي اهتمام حين تكون خارج تلك الحدود.

إن سمة هذه الدعاوى هي كونها ما بعد-سياسية. وإذ يرتكز هذا المفهوم على الفكرة القائلة بأن عملية تشكيل العدالة قد تكون غير عادلة، فإنه يسمح للمدعين أن يطرحوا سؤال الإطار على أنه سؤال يصب في جوهر العدالة. وبالتالي، فإنه يزودنا بالانعكاسية التي تساعدنا على القيام بتحليل منطقي للمنازعات حول مسألة "من" في العدالة الغير معتادة.

لكن الانعكاسية ليست حلا في حد ذاتها. فما إن نقر بأن مظالم ناجمة عن "التشكيل الخطإ" يمكن أن تحصل من حيث المبدإ، حتى تواجهنا الحاجة إلى آلية لتحديد متى وأين توجد هذه المظالم على أرض الواقع. وهكذا، فإن صياغة نظرية للعدالة ملائمة لظروف غير عادية تتطلب مبدأ معياريا يتولى تقييم الإطارات. وفي حال غياب هذا المبدإ القادر على التمييز، فلا سبيل إلى تقييم البدائل، ومن ثم لا سبيل إلى الفصل في النزاعات التي تنطوي على رؤى متضاربة لمسألة "من؟".


2- عن التمييز بوصفه نقدا معياريا ثابتا:
التماس الحجة من أجل مبدإ "كل الأشخاص"

وتأسيسا على ما سبق ، أود أن انتقل الآن إلى الشق الثاني من تصوري المزدوج لمسألة "من؟". وبعد أن سقت الحجة تلو الحجة فيما يخص الانعكاسية، سأجادل الآن في كون التنظير في ظروف شاذة لابد وأن يتحلى بحس تمييزي – بمعنى أن يتضمن أداة موضوعية قادرة على تقييم الإطارات المتنافسة فيما بينها. ذلك أن هناك حاجة إلى أداة من هذا النوع لمواجهة الجانب السلبي للعدالة الشاذة. وبما أنني أقررت بالجانب الإيجابي أعلاه، من خلال فسح المجال في وجه رؤى جديدة لسؤال "من"، فإني ملزمة اللحظة باستيعاب الجانب السلبي، وذلك من خلال طرح أداة مؤقتة قادرة على الفصل فيما بينهم.

ترى ما هو شكل هذا المبدأ ذي الحس التمييزي؟ في الوقت الراهن، هناك ثلاثة مرشحين على العرض. سأقوم فيما يلي بفحص الواحد تلو الآخر.

إن الاقتراح الأول فيما يتعلق بتقييم إطار العدالة هو مبدإ الانتماء السياسي. ويقترح دعاة هذا النهج في محاولتهم لإيجاد حلول للنزاعات حول "من" الاستناد إلى معايير الانتماء السياسي. ولأن الشيء الذي يحول حفنة من الأفراد إلى مواطنين شركاء في العدالة هو، بحسب هؤلاء، عضويتهم المشتركة داخل مجموعة سياسية. وبالتالي، فإن المعنيين بالعدالة بالنسبة لهم هم أولئك الذين ينتمون جماعة إلى هيئة تحكيم معينة (POLITY).

في الواقع، ينطوي مبدأ العضوية هذا على وجهين بديلين، ولكل بديل تأويله الخاص للانتماء السياسي. وبالنسبة لأحد هذين التأويلين، فإن الانتماء السياسي هو، أو من المفروض أن يكون، مسألة تتعلق بالقومية المشتركة. وبالنسبة لأنصار هذه المقاربة، من أمثال ديفيد ميللر وما يكل والزر، تلقى العدالة سندها الأقوى حين يكون الانتماء السياسي مدعوما بروح جماعية (ETHOS) سابقة زمانيا للممارسة السياسية – وهذه الروح هي مزيج يختلط فيه كل من اللغة، والتاريخ، والتقاليد، والانتساب القبلي. بالنسبة لهؤلاء، إذن، فإن الجواب على سؤال "من؟" هو القومية.

لكن عددا آخر من القائلين بالعضوية يرفضون هذا التأويل، لأنه ينطوي على عنصرية مرفوضة، وتاريخ مضلل، وبصفة عامة لكونه غير صالح للدول الحديثة، التي تتميز بتعدد الألسن وتنوع الثقافات. وبالنسبة لهؤلاء، لا حاجة للانتماء السياسي أن يكون مرتبطا بهوية جماعية ما قبل-سياسية، بل من الأفضل أن يكون رابطا سياسيا لا غير، ومن هذا المنظور، الذي يحظى بتزكية في كتابات ويل كيمليكا وتوماس ناجل، فإن المرء ينتمي إلى مجموعة سياسية بحكم المواطنة لا غير. المواطنة لوحدها، وبغض النظر عن الهوية القومية، هي كافية لأن تجعل من الفرد موضوعا معنيا بالعدالة. وهكذا، فإن الجواب على سؤال "من" هو مجموع المواطنين (CITIZENTRY).

وبالمناسبة، يحق لنا أن نسأل: ما موقع جون راولز في كل هذا؟
لاشك أن مؤلف كتاب "قانون الشعوب" (THE LAW OF PEOPLES) ينتمي إلى جمهور القائلين بنظرية الانتماء، ذلك لأنه يتصور العدالة على أنها علاقة بين مجموعة من الناس منظمين كمجموعة سياسية محلية. ولكن أي نوع بالضبط هو من هؤلاء المنظرين؟ وحتى لا أدخل في تحليل تفاصيل تصوره هذا، والذي أجده ملتبسا نوعا ما، يحق لنا أن نحدد موقعه في منطقة رمادية وسطى بين البديلين الكامنين في مبدإ الانتماء: القومية والمواطنة.
والذي يهمني هنا في هذه المقاربة هي أوجه التشابه بين هذه التصورات أكثر من أوجه الفوارق – على الرغم من أهمية هذه الأخيرة. والخيط الرابط بين هؤلاء هو الاعتقاد بأن ما يحول زمرة من الأفراد إلى أشخاص معنيين بالعدالة هو كونهم يشتركون –على التساوي- في الانتساب لنفس المجموعة السياسية. ويتبين، إضافة إلى ذلك، على أن هذه المجموعة السياسية بالنسبة لهؤلاء ليست شيئا آخر غير الدولة القومية الحديثة. فبالنسبة للقوميين، من ناحية، فإن أي وطن قابل للحياة يتطلب أن يحصل على دولة مثل هذه. وبالنسبة للقائلين بفكرة المواطنة، من ناحية أخرى، فإن الانتماء لا يتطلب أكثر من الحصول على بطاقة المواطنة داخل حدود هذه الدولة.

ومرد هذا هو ما يلي: إن العدالة، بحكم تعريفها، مفهوم سياسي. وأي التزامات بها لا تعني إلا الذين تربطهم علاقة ذات طابع سياسي. وبالتالي فإن أي تحديد "لمن العدالة؟" مرتبط أساسا بما يجب اعتباره علاقة ذات طابع سياسي. والجواب على هذا السؤال المبدئي، سواء كان الأمر يتعلق بمنظري الانتماء أو القوميين أو سواهم، هو الانتماء المشترك داخل حدود مجموعة سياسية، متخيلة على مقاس النموذج الويستفالي. ويقدم توماس ناجل أحسن توضيح لهذه النقطة بالذات. يقول ناجل: إن الذي يجعل العلاقة سياسية هو الامتثال الجماعي لسلطة سياسية تمارس القوة والعنف باسم أعضائها وتقوم بحشد تعاونهم الفعال. بمعنى آخر، إن ارتباطنا بهذه السلطة الضاغطة التي تمارس القوة باسمنا وتحشد دعمنا هي التي تجعل منا أندادا سواسية من الناحية السياسية. وتنشأ هذه الروابط السياسية بحكم التواجد المشترك داخل حدود دولة ذات سيادة. وهذه الروابط التي تجمع بين الأنداد هي وحدها التي يتم اعتبارها بمثابة روابط سياسية، بمعنى أنها ضرورية لإثارة التعهدات إزاء العدالة11. وهكذا فإن حدود العدالة تتطابق مع تلك التي أقامها ورسخها الإطار الويستفالي. وبالتالي فإن "المعني بالعدالة" المنطقي الوحيد هو "من" الويستفالي.

كيف لنا أن نتعامل مع هذه المقاربة؟ الملاحظة الأولى هي أن مبدإ العضوية أو الانتماء يقيم أسس الالتزام بالعدالة في رابطة اجتماعية محددة. وحين تقوم هذه المقاربة برفض وجهة النظر القائلة أن العدالة قادرة على الربط بين الأفراد بدون أن تكون بينهم أية صلة، فإنها تؤكد بذلك على أن العدالة ملزمة فقط بالنسبة لأولئك الذين تربطهم فيما بينهم علاقة ذات بعد أخلاقي، أي تحديدا رابطة سياسية مبنية على الانتساب الجماعي لدولة بالمعنى الويستفالي. ونتيجة لذلك، يتميز مبدأ الانتماء بقدرته على التعبير عن إحساس قوي بسلوك اجتماعي ذي توجه إنسان. وحتى نتجنب أي دعوات مجردة لما يدعى بالإنسانية، فإن هذا المذهب يؤكد على أن أي تصور للمعنيين بالعدالة لابد وأن يتأسس على علاقات واقعية تصل فيما بينهم.

إضافة إلى ذلك، فإن مبدإ الانتماء يتحلى بالواقعية. ذلك أن تصور هذا الأخير لنموذج ذي بعد أخلاقي ينسجم مع العديد من مظاهر الواقع الحالي للعديد من محددات الهوية الجماعية. وبذلك يجوز القول أنه ليس مجرد صفقة خاسرة في اعتماده على التزامات قائمة. لكن نقطة القوة هذه هي في ذات الوقت نقطة ضعف. ذلك أن هذا المبدأ يعمل، في نهاية التحليل، على التصديق على سلبيات الاستبعاد التي تنطوي عليها قوميات الأقوياء، وبالتالي تقوم بحماية الإطار القائم من التحليل النقدي.

وليس هذا  كل شيء. فهذا المبدإ، بحكم تعريفه، غير مؤهل للنظر في الحالات التي تكون فيها عمليات تشكيل العدالة –ذات الطابع الويستفالي- هي نفسها غير منصفة. وبما أنها كذلك، فإنها غير قادرة لتستمع بالقدر المطلوب لكل المطالب الأخرى المرتبطة بسؤال "لمن العدالة". وبما أن هذا المبدأ يصادر الانعكاسية المنشودة، فإنه لا يفي بالشروط الضرورية التي تتطلبها أية عملية تنظير للعدالة الشاذة.

لا عجب إذن أن العديد من الفلاسفة ونشطاء الحركات التحررية سعوا إلى إيجاد مقاربة أكثر انتقادية. وهذه المقاربة البديلة، بالنسبة للبعض، هي ما يدعى بالمبدإ الإنساني (HUMANIST). ويقترح أنصار هذه المقاربة البديلة، من أمثـال مرثـا نوسابـوم (M. NUSSABAUM)، إيجاد حلول للنزاعات المتعلقة بمسألة "من" عن طريق الاستناد على معايير "الشخصانية" (PERSONHOOD). وتبعا لذلك، فإن الأمر الذي يحول زمرة من الأفراد إلى أشخاص معنيين بالعدالة هو كونهم يشتركون في امتلاكهم لملامح إنسانية محددة. أما السؤال المتعلق بطبيعة هذه الملامح فيدور حوله جدال كبير، حيث أن منظري هذا الاتجاه ذي النزعة الإنسانية يختلفون فيما كان يجب التوكيد على الاستقلالية أم على العقلانية، أم على الاستعمال اللغوي، أم على القدرة على فعل الخير، أم على التعرض لضرر أخلاقي، إلى غير ذلك12. ولسنا الآن في حاجة إلى التوقف على تلك المناظرات. ما هو أكثر أهمية من التعريف الدقيق لما هو "إنساني هو الفكرة القائلة بأن كل من له صفة "إنساني" يدخل بذلك في عداد المعنيين بالعدالة، ويتقاسم هذه الفكرة كل أنصار المذهب الإنساني، بالرغم من اختلافات آرائهم.

ترى ما هو موقفنا من المبدإ الإنساني هذا؟ أول ما ينبغي ملاحظته هو أن هذه المقاربة توفر نوعا من القيود النظرية للقومية الاستقصائية. وحيث أنها تحصر إطار العدالة داخل مفهوم الشخصية، فهي مهيأة بأن تتبنى المطالب الأخرى التي تنطوي على تصورات للعدالة منفتحة على الآخر. لكن ومع كل ذلك فإن المبدإ الإنساني يفتقر إلى مبدإ الانعكاسية. ومهما يكن من أمر فإن هذا المبدإ هو من التجريد بمكان لدرجة أنه لا يستطيع أن يميز المدلول الأخلاقي في أية مقاربة معينة. ونظرا لموقعه المتعالي، فإن هذا المبدأ يمنح ذات المرتبة لجميع الأفراد، وفي كل الحالات، بدون الإقرار بأوجه الخلاف. ومادام هذا المبدأ يقوم على "مقاس واحد يناسب الجميع"، فإنه يستبعد الإمكانية التالية: قضايا مختلفة تتطلب تصورات للعدالة هي أيضا مختلفة.

وأصل المشكلة، في تقديري، هو أن المبدإ الإنساني لا يأخذ بعين الاعتبار الروابط الاجتماعية، سواء كانت آنية أم تاريخية. وتصبح نقيض المبدأ الأول – مبدأ الانتماء أو العضوية، ذلك أن هذا الأخير يقيم العدالة على أسس جد مقيدة، بينما يقيم  المبدأ البديل أسسا مفتوحة على مصراعيها، وغير مشروطة. والنتيجة هي أنه لا يقيم وزنا لتلك الجوانب من الحياة التي يسعى إلى تنظيمها. وهكذا، وبسبب هذا التموقع المتعالي، غيرالمكثرت بمجريات الواقع، فإن هذا المبدأ الإنساني، الذي يرحب بالجميع في حظيرته، بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى، ينطوي في حقيقة الأمر على نوع من الاستبدادية.

وهذا الجانب التجريدي المتعالي للمذهب الإنساني يفسر تلك العلاقة المريبة التي تربطه بالإمبريالية. وحتى لا نكون مبالغين في إقامة علاقة مباشرة بين الاثنين، فإنه يحق لنا أن نلاحظ أن هناك فعلا علاقة ضمنية بين "النظر من لا مكان" وبين "المركز" الذي غالبا ما يرتبط بذاك الواقع. وهذا لا يعني بأن طبقة المحرومين لا تقوم هي نفسها بالتعبير عن مطالبها مستعملين ذات اللغة المرتبطة بالإنسانية المشتركة. وكما تلاحظ هانا آرندت (H. ARENDT)، فهذه لغة الملاذ الأخير، حين يفشل كل شيء آخر، ومن ثم فإنها لغة ضعف 13. والنتيجة الحتمية لذلك هو أنه حين يتعلق الأمر بقضية استغلال الضعفاء، فإنها تقوم بعملية تعتيم للواقع المعيش الذي يسمح لمطالب العدالة أن تخرج للعلن. وبهذا المعنى، يصح القول بأن المبدإ الإنساني يقوم بإضفاء الشرعية على أطروحة المركز القوي.

وعلى أية حال، فإن مبدأ "مقاس واحد يناسب الجميع" هو كاف لتنحيته بصفته مقاربة قابلة للتطبيق فيما يخص تنظير العدالة في ظروف غير طبيعية. ذلك لأن الادعاء بأن أي شكل من أشكال العدالة يلزم الجميع فهو بمثابة القول بأن أي شكل من أشكال العدالة هو بالضرورة مسألة قومية. وفي كلتا الحالتين، يبدو وكأن الأمر قد تم الحسم فيه سلفا، وبذلك تم استبعاد ممارسة النقد الانعكاسي. وهكذا نجد أنه، سواء كان الأمر يتعلق بالمبدإ الإنساني أو مبدإ الانتماء، فلا هذا ولا ذاك – ولأسباب مختلفة- قادر على الفصل في المنازعات حول مسألة "من؟". بمعنى آخر، لا أحد من البدلاء قادر على معالجة المشاكل المتعلقة بالعدالة الشاذة، وهي المشاكل التي يزخر بها عالمنا في الوقت الراهن.

وربما لهذا السبب يرفض العديد من الفلاسفة والنشطاء المبدأين معا سواء بسواء. وسعيا من هؤلاء في تجنب أي نهج يدعي القول بإيجاد الحل لكل مشكلة –مسبقا- فإنهم يفضلون مبدأ ثالثا، هو مبدأ "الكل متأثر" (ALL- AFFECTED). ويعد هذا المبدإ، الذي يلقى تأييدا من قبل أولئك الذين يقولون بأن "لمن" العدالة ليس بالقومي ولا الكوني، باقتراح مفهوم للعدالة عابر-للقومية. والأصل في هذه الفكرة جد بسيط: ذلك أن أنصار هذا المبدأ يقترحون- في محاولتهم لإيجاد حل للنزاعات الدائرة حول هوية "من" للاستناد إلى الروابط الاجتماعية المتعلقة "بالترابط" (INTERDEPENDANCE). وبتعبير آخر، فإن ما يجعل الناس أندادا في عين العدالة هو تفرعهم الموضوعي في شبكة من العلاقات المسببة14. وكل من يتعرض لآثار عمل ما يصبح معنيا بالعدالة. وهكذا، فإن سؤال "من المعني بالعدالة" هو وظيفة للتبادل الاجتماعي. وبما أن هذا الأخير قابل للتغيير من حالة إلى أخرى، فنفس الشيء يسري على الأول.

وتتميز هذه المقاربة، هي الأخرى، بأن لها بدائل متباينة عديدة. فبينما يقترح بيتر سنجر نسخة لها ذات طابع تجريبي نفعي، فإن هابرماس يضمنها داخل منظومته حول الأخلاق تحت اسم « D ». وهنا تبدو الفوارق للمرة الثانية على أنها أقل قيمة من أوجه التشابه. والعلاقة المميزة لهذا الموقف هو "التماثل" الذي تقيمه بين "من" و"جماعة مهددة بالخطر" من منظور مذهب العلية. فالذي يتم احتسابهم هم الذين يقومون بأفعال لها تأثير مباشر على الآخرين.

ترى ما هو موقفنا من مبدأ "الكل متأثر" هذا؟ أول ملاحظة ينبغي القيام بها هي كون هذا المبدأ يتحاشى التطرق إلى طبقة من الناس يشاركون في ملكية واحدة، بغض النظر عن العلاقات التي تربط فيما بينهم. وهي بهذا تلتقي مع مبدأ "العضوية" في الإيمان بالتزامات واقعية تجاه العدالة. ولكن وفي ذات الوقت، فإن أنصار هذا البديل الثالث لا يقبلون بالمفهوم الأخلاقي للروابط الاجتماعية الذي نجده عند أنصار مبدإ "الانتماء أو العضوية". وحيث أنهم يعتبرون المبدأين معا – الانتماء والمواطنة- ذات طابع تقييدي، فإنهم يقترحون توسيع حدود العدالة لكي تشمل كل من أعماله لها تأثير على الآخرين.

ولأول وهلة، يبدو أن مبدأ "الكل متأثر" يفلح في تجنب نقاط الضعف التي تجدها في المبدأين الآخرين. والذي يمكنه من ذلك هو أنه يوفر آلية ضبط انتقادي لأفكار الانتماء تخدم مصالحه، وفي الوقت ذاته يأخذ الروابط الاجتماعية بعين الاعتبار. ومع ذلك فإن هذا المبدإ جد موضوعي لدرجة تدعو إلى التساؤل: فهو  حين يحصر العدالة في مفهوم العلية، فإنه يعامل البشر وكأنهم كرات البليارد، ويتغاضى بذلك عن القوة الكامنة وراء الوسائط الاجتماعية. وحين يختزل مسألة "من؟" في مسألة "من أثر في م؟"، فإن مبدأ التأثير هذا يحيل الظاهرة برمتها وكأنها مجرد ظاهرة تجريبية، يمكن أن نحيلها على العلوم الاجتماعية للنظر فيها. وبالتالي، فإن هذه المقاربة تأذن للخبراء في العلوم الاجتماعية للقيام بتحديد "من" هو المعني بالعدالة.

وفي واقع الأمر، فإن سؤال "من" لا ينبغي أن يترك لهؤلاء الخبراء المتهافتين على العلية البنيوية. وبناء على ما يسمى "بتأثير الفراشة"، فإنه من الممكن الإدلاء بالبرهان التجريبي على أن أي شيء هو متأثر بشيء آخر. لكن ما نحن في حاجة إليه حقا هو إيجاد طريقة تمكننا من التمييز بين مستويات "التأثير" هذه التي هي قادرة على إعطاء تلك الصفة الأخلاقية دون سواها. ومع ذلك، فإن العلوم الاجتماعية عاجزة عن توفير هذه المعايير. بل على العكس من ذلك، تنطوي الأحكام بالضرورة على تركيب معقد مكون من تفكير معياري، وتأويل تاريخي، وتنظير اجتماعي. فهي إذن ذات طابع حواري وسياسي متأصل فيها.

وبصفة عامة، إذن، يقع مبدأ "الكل متأثر" في فخ "إثارة الفراشة". وبما أن هذا المبدأ عاجز على تحديد روابط اجتماعية ذات مدلول أخلاقي، فإنه يعامل أي صلة علة على أنها ذات معنى. وحيث أنه يرسم ليلا تبدو فيه كل الأبقار رمادية اللون، فإنه لا يستطيع مقاومة العولمة التي تناسب الجميع – وهو الأمر الذي طالما سعى إلى تجنبه. وهكذا يفشل هذا المبدأ، هو الآخر، في إيجاد معيار للقياس من شأنه أن يحدد هوية "من" في ظروف غير عادية.

وبالنظر إلى أوجه الخلل في كل من "العضوية"، و"الإنسانية"، و"التأثر"، ترى ما هو المبدأ المناسب الذي سيمكننا من تقييم جميع هذه التصورات المتضاربة حول "العدالة الشاذة"؟ سأقوم فيما يلي بإخضاع دعاوى "التشكيل السيء" (MIS- FRAMING) لما سأصطلح عليه بمبدأ "كل الأشخاص" (ALL-SUBJECTED). وفقا لهذا المبدأ، فإن جميع الأشخاص الذين يشتركون في كيان سياسي هم المخولون أخلاقيا لأن يكونوا معنيين بالعدالة. بمعنى آخر، إن ما يجعل من مجموعة من الأشخاص متشاركين في العدالة، ليس أبدا المواطنة المشتركة، أو المواطنة، ولا امتلاك صفة الشخص المجردة، أو حتى التوافق، بل كونهم يجتمعون داخل هيأة تحكم مماثلة، تقوم بوضع الأسس التي تتولى تنظيم معاملاتهم. وبالنسبة لأي هيئة تحكم، فإن مبدأ "كل الأشخاص" يتلاءم والمجال الأخلاقي للامتثال15.

وهكذا، فإن هذا المبدأ يرفض هو الآخر تجاهل المذهب الإنساني للروابط الاجتماعية إذ يؤكد، كما هو الحال بالنسبة للانتماء والتأثير، على أن الالتزامات بالعدالة تنمو من رحم الروابط الاجتماعية. وبخلاف التأثير، فإنه يرفض القول بأن التوافق السببي كفيل بأن يقيم علاقات متينة قادرة على إثارة الالتزام بالعدل. لكن هذا المبدأ يتوافق مع مبدإ الانتماء، حيث أنه يؤكد على أن طبيعة الرابطة الاجتماعية لابد وأن تكون سياسية. ولكن يختلف مع مبدأ العضوية في رفضه لوجهة النظر التي تحصر الروابط الاجتماعية فقط في العضوية المشتركة داخل حدود الدولة – بالمفهوم الويستفالي. ومن منظور مبدأ "كل الأشخاص"، توجد الروابط السياسية حيثما تواجد عدد من الأفراد خاضعين لبنية تحكم معينة تتولى أمر تنظيم التفاعل فيما بينهم.

بطبيعة الحال، يتوقف الأمر على التفسير الذي سنعطيه للعبارة التالية:" الامتثال لبنية تحكم". واقتراحي هو أن نفهم هذه العبارة في إطار أوسع، لكي تشمل نماذج متعددة للسلطة السياسية. وبما أنها لا تنحصر فقط في الدول، فإن بنيات الامثتال هذه تتألف أيضا من وكالات غير حكومية تسن القوانين المنظمة لأجزاء هامة من خريطة التعامل الاجتماعي. ومثال على ذلك، الوكالات التي تتحكم في الاقتصاد العالمي، منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي. ولكن هناك أيضا العديد من الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها، والتي تضم البنيات العبر-وطنية التي تتحكم في البيئة، والطاقة الذرية، ومنظمة الشرطة الدولية (انتربول)، والأمن القومي، والصحة العالمية، والملكية الفكرية، وإدارة القانون المدني والجنائي. وبقدر ما تقوم هذه البنيات بضبط التفاعل بين أعداد كبيرة من ساكنة المعمور، فيحق القول أن هاته الأعداد من الناس يتم أيضا إخضاعهم لأحكام صانعي القرار، وهؤلاء لا يخضعون لأي محاسبة أو انتقاد. وبالنظر إلى هذا الفهم الرحيب لبنيات التحكم، فإن مصطلح "إخضاع" يجب أن يفهم هو الآخر على نطاق واسع. وبما أن هذا المصطلح لا ينحصر في المواطنة، أو حتى سلطة القضاء لتلك الدولة، فإنه يشمل أيضا وضعية أخرى، وهي الخضوع إلى أشكال متعددة من الحكامة (GOVERNMENTALITY) غير-حكومية وعبر-وطنية.

وبهذا المعنى، يوفر مبدأ "كل الأشخاص" معيارا نقديا لتقييم عدالة –أو لا عدالة-الإطار. ويجوز اعتبار قضية معينة على أنها عادلة فقط حين يحصل كل من هو خاضع لبنيات التحكم على نفس القدر من الاعتبار. وهكذا، فإن الشعوب وللظفر بهذا الاعتبار، لا يحتاج المرء لتكون له صفة "العضو" في البنية المعنية، بل كل ما عليه هو أن يكون خاضعا لها.الأفريقية جنوب الصحراء، الذين تم استبعادهم قسرا من الاقتصاد العالمي بسبب القوانين الجائرة التي فرضتها بنيات وأنظمة التحكم، ينبغي أن يعدوا موضوع عدالة، حتى وإن كانوا غير مشاركين في هذا الاقتصاد16.

يقوم مبدأ "كل الأشخاص" بإصلاح أوجه العطب في المبادئ السابقة. فبخلاف "المذهب الإنساني"، فإنه يكبح جماح العولمة المجردة التي تستقبل الجميع داخل حظيرتها، وذلك من خلال الأخذ بعين الاعتبار للعلاقات الاجتماعية. وبخلاف "التأثير"، فإنها تتجنب عدم التمييز المصاحب لما يسمى "إثارة الفراشة"، وذلك بتحديد النموذج الأخلاقي المناسب، أي التشارك في الامتثال لبنية تحكم معينة. وخلافا لكل المحاولات تنصب "من" معولمة مكان "من" ويستفالية، فإن هذا المبدأ يرفض كل أشكال العدالة التي تناسب الجميع. وفي عالمنا اليوم، كلنا خاضعون للعديد من بنيات تحكم مختلفة، سواء كانت محلية أو وطنية، أو إقليمية، أو كونية. وبالتالي، فما نحن بحاجة إليه هو تحديد إطارات متباينة لقضايا متباينة. وبحكم قدرة هذا المبدأ البديل على الإشارة لمن هو مرشح ليحل محل "من" –ولأغراض متنوعة، فإنه قادر على أن يبين متى وأين نطبق أية إطار.


خاتمـــــــة:


بصفة عامة،  ما أود أن أعرض له هنا هو اقتراح بناء لمعالجة القضايا المرتبطة بسؤال "من" في الأوضاع الحالية للعدالة الشاذة. وتحديدا ، أقترح أن أخضع دعاوى ضد لا عدالة التشكيل السيء لمبدأ "كل الأشخاص" . وأنا مؤمنة بقدرة هذه المقاربة على تسليط الضوء على المنازعات المتعلقة بالعدالة التي تشمل تصورات لمسألة "من".

لا يهم الدخول في تفاصيل وحيثيات هذه المقاربة، ما يهم فعلا هو المعمار الفكري العام الذي تنبني عليه. والشيء الأهم في هذه المقارنة هو كونها انعكاسية وذات حس تمييزي في آن واحد. إنها تجمع بين المساءلة الانعكاسية لإطارات العدالة وبين أداة تقييم وتمييز. وهي بهذا تستوعب وتقر بوجهي العدالة الشاذة، الإيجابي والسلبي. وبفضل انعكاسيتها، فإن مفهوم "التشكيل الخطإ" يسبغ نوعا من الشرعية على الطعن في الإطار الويستفالي. وبحكم موقعها فيما "بعد-المستوى" (META-LEVEL)، فإن هذا المفهوم يسمح لنا بقبول الإمكانية التي تقول بأن قضايا أساسية مرتبطة بالعدالة تمت صياغتها بطريقة خاطئة. وهكذا، فإنه يفسح الطريق في وجه تصورات مفتوحة على "من". وفي الوقت نفسه، وبفضل حسها التمييزي، فإن هذه المقاربة توفر أداة تقييم لكل واحدة من مجموع "من" المتنافسة. وخلاصة القول هي أن هذه المقاربة تبشر بوعود جبارة في إيجاد حلول للنزاعات المرتبطة ب"من" في الأوقات الصعبة.

والأكثر أهمية من كل ما سبق هو الإشكالية العامة التي قمت باستجلاء معالمها هنا. في ظروف العدالة الشاذة، كل ما كان سابقا يدخل في قبيل المسلمات فيما يخص "موضوع" العدالة يجب ألا يبقى كذلك. بل يجب إخضاع هذه البديهيات إلى قراءة تحليلية نقدية، وكذلك إعادة تقييمها من جديد. وعند القيام بهذه العملية النقدية، ينبغي الانتباه إلى كمينين: على المرء أن يتصدى للإغراء الرجعي، وربما العقيم، بالتشبت الأعمى بمسلمات لم تعد صالحة لكوكبنا المعولم، من قبيل "ويستفالية" أصبحت متجاوزة: ومن ناحية أخرى، على المرء أن يتجنب الاحتفاء بما هو شاذ، وكأن الطعن بغرض  الطعن هو نوع من التحرر. وقد سعيت في هذه المقالة إلى صياغة موقف بديل، موقف يؤمن بأن العدالة الشاذة ستصبح الأفق الذي يتضمن كل أنواع النضال ضد جميع أشكال الظلم. وحين ندرك إدراكا كاملا كلا من مخاطر هذه الوضعية وآفاقها الواعدة، آنذاك فقط يحق لنا أن نتفاءل بقدرتنا على الحد من المظالم الهائلة التي يعج بها عالمنا اليوم.



هوامـــــــش

1 للإطلاع على ما يسمى "الإطار الويستفالي"، انظر نانسي فريزر، "إعادة تأطير العدلة في عالم معولم" New Left Review (2005) 88-69. أعيد طبع المقال في كتاب فريزر:"مقاييس العدالة" (2008). لقد أبدى بعض القراء ملاحظات حول مسألة: إن الشعوب المستعمرة لم يقبلوا قط بشرعية الإطار الويستفالي -وهكذا فإن هذا الإطار لم يحظ أبدا بالمصداقية الكاملة. لكن في نظري ،فإن أغلب المناهضين للاستعمار في الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية سعوا لتحقيق دول ويستفالية خاصة بهم. وفي المقابل، قامت حفنة جد صغيرة بالمطالبة بالعدالة داخل إطار معولم- وذلك لأسباب معروفة. وعوض أن تطعن في الإطار الويستفالي، فقد قامت هذه القوى المناهضة للإمبريالية بمساندة هذا الإطار.

2 إن مصطلح « intermestic » هو من صياغة جيمس روزنو. ويجمع هذا المصطلح بين "الدولي" و"المحلي" للتلميح إلى إعادة النظر في ذلك التقسيم الحاد بين الاثنين. انظر روزنو Along the Domestic -Foreign Frontier) (1997.

3 إن عبارة "مجموعة تحت تهديد الخطر" هي من صياغة أ.بيك، في كتابه (1992) "Risk society".

انظر نانسي فريزر: "العدالة الشاذة Critical Inquiry no.3 (2008)، 422-393.

5 توماس كون: "بنية الثورات العلمية" (شيكاغو، 1996).

6 حتى يكون المرء وفيا لمصطلحات توماس كون، فعليه أن يستعمل العبارة التالية:" العدالة الثورية". لكني أفضل هنا أن أتبع ريتشارد رورتي واستعمل عبارة "العدالة الشاذة". يميز رورتي بين "الخطاب العادي" و"الخطاب الشاذ" في كتابه: "الفلسفة ومرآة الطبيعة" (1979) وكتابه "الاحتمال، السخرية، والتآزر" (1989).

7 للإطلاع على هذا الرأي برمته، انظر: فريزر: "العدالة الشاذة".

8 للإطلاع على نظريتي الأصلية ذات البعدين الاثنين، انظر: نانسي فريزر، "العدالة الاجتماعية في زمن سياسة الهوية" في كتاب: "إعادة التوزيع أم الاعتراف؟" فريزر وهونيت (2003) وللإطلاع على نظريتي ذات الأبعاد الثلاثة، انظر "إعادة تأطير العدالة" المشار إليه أعلاه.

9 للمزيد من الإطلاع حول هذه القضايا انظر Ritchie و Hill في كتاب "من يتم احتساب صوته؟" (2001). وكتاب "استبداد الأغلبية" (1994) لمؤلفه Lani Guinier. ومقالة S.M. Rai: "التمثيلية السياسية"، ومقالة Mala Htun: "هل الجنوسة مثل العرق؟" (2004). وكتاب Will Kymlicka "المواطنة المتعددة" (1995). وكتاب Melissa Williams:" الصوت، الثقة، الذاكرة" (1998).

10 استعملت هذا المصطلح أول مرة في مقالة "إعادة تأطير العدالة" المشار إليه أعلاه.

11 للإطلاع على الفكرة برمتها، انظر Thomas Nagel:"إشكالية العدالة المعولمة" في "الفلسفة والشؤون العمومية" (2005).

12 أحد أهم مناصري هذه المقاربة اليوم هي M. Nussbaum انظر، على سبيل المثال، مقالتها التي تحمل عنوان:" الوطنية والكوسموبوليتانية" في كتاب "حب الوطن" (1996).

13 حنا آراندت، "جذور الاستبداد" (1973). ص: 298.

14 من بين المناصرين لهذه المقاربة هناك: Peter Singer في كتابه:"عالم واحد: أخلاقيات العولمة" (2004) وThomas Pogge في كتابه:" العالم والفقر وحقوق الإنسان" (2002) وأخيرا: Iris Young في مقالتها "المسؤولية والعدالة الدولية" (2006). سبق لي شخصيا أن اعتبرت مبدأ "الكل متأثر" بصفته البديل الأفضل فيما يتعلق بصياغة الإطار، هذا بالرغم من انتقاداتي لتأويله العلمي المعياري و"لتأثير الفراشة". أما الآن، فأنا جد واثقة بأن هذه الصعوبات هي بالأهمية بمكان لدرجة تدعو إلى التخلي عن مبدإ "الكل متأثر" لصالح البديل الذي سأقدمه فيما يلي. للإطلاع على مواقفي السابقة، انظر: نانسي فريزر: "العدالة الديمقراطية في زمن العولمة" في كتاب:"أنواع صياغة العالم" (ليفربول: 2006) ومقالة فريزر:"إعادة تأطير العدالة" المشار إليه أعلاه.

15 إن عبارة "مبدأ كل الأشخاص" هي من اصطلاحي، لكن نفس الفكرة موجودة في المصادر التالية: Cohen & Sabel Extra Republicam Nulla Justitia ?" 2006"؛ Rainer Forst "العدالة، الأخلاق والسلطة في سياق العولمة" في كتاب "العدالة في عالم الواقع" (2005).

16 جيمس فرجسن:" قطع الاتصال العالمي" في مؤلفه: "توقعات الحداثة" (1999)، 54-234.


 

Collège International de Philosophie