في قلب اللامكان

عرض عمل أنجز خلال اغسطس 2009 مع لاجئين شيشان في بولندا

Christiane VOLLAIRE

المترجم : ABDESSAMAD Hichem


  • fr
  • en
  • ar
  • tr
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

يزاوج مشروعنا هذا بين بحث  فلسفي و ميداني تم إنجازه في صيف 2008 في أوساط اللاجئين إلى بولندا وخاصة منهم أصيلي الشيشان، وبين عمل تصويري أنجز في أماكن الإسكان والحجز لهؤلاء اللاجئين. وكما لا تكشف الصور عن الأشخاص لا يكشف النص عن الأماكن. لكن كلمة الأشخاص مطبوعة بأماكن حبسهم وبالمقابل فالأماكن الخالية من الوجوه مسكونة بحضور الكلمة، أي أن هذا العمل قائم على هذا الحضور المشترك و "الغياب المضاعف" على حد تعبير عالم الاجتماع عبد الملك الصياد. 

1. تشخيص اللّامرئي

المرئي و السري  

نلاحظ أولا أن هذه الحوارات غير الرسمية تم تسجيلها خلال لقاءات عابرة، كما شاءت الصدف : في أحد الأروقة أو على عتبة إحدى الغرف، في بهو مشترك أو داخل قاعة القسم أو في المطبخ الجماعي... كل هذه الحوارات تمت بطلب منا لكن دون أي إكراه. فكل من خاطبتهم كانوا متعطشين إلى الإصداع بما يختلج بداخلهم  ومنهم من تحدى الحواجز اللغوية بما في ذلك الحواجز التي قنّنها مسؤولو المركز أو الحواجز الكامنة في نظرة الآخرين. كان الكل على علم أنه لا حول لنا ولا قوة لمساعدتهم وأننا لا ننتمي إلى أية منظمة غير حكومية وأنه لا طائل إداري لنا، لكنهم كانوا كلهم على بينة بأن الكتاب صادر لامحالة وأن كلمتهم سوف تنقل وأن أماكن حياتهم الانتقالية سوف تكشف. غاية ما كانوا يتمنون جميعا هو الإبلاغ.

والموضوع الفلسفي لهذا العمل هو بالتحديد رغبة التطلع إلى الفضاء العمومي، رغبة النفاذ إلى رؤية الآخرين. تلك هي حياة طالبي اللجوء : مطبوعة أبدا بطابع السرية، غائبة عن النظرة المشتركة بقدر ما هي تحت الرقابة المستمرة. حياة مسخّرة لمنطق السلطة السياسية المزدوج. وذلك في المكان الأصلي حيث يستهدفهم العنف والإقامة المكرهة كما في مكان "الإستقبال" حيث تستهدفهم المراقبة والتسجيل على قوائم الطرد والإقصاء. في أحسن الحالات يمنح لهم حق إقامة غريب مشروط بانعدام الشغل وتعذر السكن.

عنف الخفاء

لا شك أننا التقينا خاصة نخبة اللاجئين أي تلك المجموعة المكونة من الذين تمكنوا من البقاء رغم عنف الدولة الأصليّة، رغم العنف البوليسي و رغم سطوة محترفي العبور وكل ما يمكن أن يصدر عن رفاق المنفى أنفسهم، فضلا عن المندسين من أصيلي نفس البلد الذين يواصلون ملاحقتهم، وحتى عنف العائلة وكثرة الاختلاط  والعصابات المتواجدة في كل مكان والمندسة في البلد الأصلي كما في البلد "المضيف" بما في ذلك مراكز الحجز. فاللاجئ كائن غير ذي حق لا تحميه أيّ سلطة الشرعية، معرض دوما لعداوة السلط الخفية. والسلطات السياسية التي ترفض حق اللجوء تفسح المجال بكل وعي لهذا العنف الخفي. وهذه النخبة، نخبة اللاجئين الذين أمكنهم البقاء كلاجئين، غير متجانسة وينتمي ممثلوها إلى أوساط اجتماعية متنوعة دفعتهم الأقدار إلى التعايش في نفس المراكز.

2. إسماع اللّامسموع.

الاستجواب أو المساءلة  

كانت أسئلتي على غاية البساطة : ما الذي دفع بكم إلى الخروج ؟ أين أنتم ماضون ؟ كيف تعيشون اليوم ؟ ثم هذا السؤال : ما هي الصورة الإيجابية المتبقية لكم من بلدكم الأصلي ؟ أول ما أدهشني هو أن هذه الأسئلة البسيطة لم تطرح عليهم بهذا الشكل أبدا. وأكد لي الجميع أنهم يعبرون لأول مرة عن أشياء لم يسألهم أحد عنها  من قبل. و على أية حال لا يبدو لهم  أن  أحدا من قبل اهتم بشأنهم.  فهم يعتبرون كمصدر معلومات فقط، عليهم الإجابة على أسئلة شكلية لا غير كأن الأسئلة توجه دائما إليهم لكن كلمتهم غير مرغوب فيها.

أما من جانبي فغايتي كانت واضحة كنت أريد أن أفهم وأن أكتب. من ثمّ كان تكامل المصالح بيني وبينهم. وهذا التلاقي كان يفضي في الغالب (وليس دائما) إلى علاقة غريبة قوامها الثقة وضرب من الارتياح في سياق غير مهيأ لذلك. بيد أن العلاقة غالبا ما تشوبها الريبة المشروعة وحتى العداء في البداية.

مبدأ الحقيقة ومسرح الاستقبال

في كل الحالات لا يخضع الحوار لنظام الحقيقة. حيث تتمفصل منظومة الصدق والأصالة والحقيقة  بشكل مركب،  فتكامل هذه المستويات أمر صعب  في الحالات الوجودية البسيطة  فما بالك في مثل هذه الأوضاع العصيبة، لذلك لجأت بأية حال  إلى ما دعاه ميشال فوكو " نظام الاعتراف". لم أطلب من أي أحد الالتزام بالصدق بل سألته أن يتكلم فحسب. وكانت نقاط الالتقاء بين الخطابات المختلفة جد معبّرة. ولا شك أن العديد من الأشياء بقيت طيّ الكتمان فمهما كانت الرغبة لديهم في البوح وكشف اللامرئي فإنها لا تسمح لي بحق الدخول إلى الدائرة الحميمية  أي دائرة الكتمان المشروع. وقد امتنعت المترجمة التي رافقتني، وهي على غاية من النباهة، عن نقل بعض أسئلتي. كانت الحوارات تدور في مناخ أقرب إلى الإخراج المسرحي المعبر أحيانا أكثر من الكلمة ذاتها : من ذلك ظهور وتغيب بعض المخاطبين أو تداول الصمت أو النظرات المعبرة لدى البعض الآخر وكذلك صيغ المداخلات نفسها أثناء الحوار وكيفية تقديم بعض المأكولات وتنظيم الطاولة أو المقاعد... كل ذلك كان يحملني على الاعتقاد أننا كنا ضيوفا لدى من لا يستضيفهم أحد. كانت أماكن الحبس والإقصاء تفضي بمفعول زماني ومكاني عبثيّ إلى فضاء رحب يتسع لمشروع وجودي تعمل كل أجهزتنا القانونية إلى منع تحقيقيه.

3. مفهومية اللامفهوم

أشكال "مذهلة" للّاعقلانية السياسية

ما نود إبرازه هنا هو شكل الجنون المتأتي من عقل سياسي مزعوم. فالحوارات التي قمنا بها والأفكار التي تمخضت عنها تبرز في كل المستويات  البعد التخريبي لتلك اللاعقلانية المتسترة وراء ما يسمى بحق الدولة : "عقلانية لا عقلانية" ذلك هو التضارب اللغوي الذي لمسناه خلال التجربة وكما عبر عن ذلك فوكو سنة 1983 في حوار حول "البنيوية وما بعد النبوية" " لا أقبل مطلقا التماهي بين العقل ومجمل أشكال العقلانية التي هيمنت في وقت محدد في عصرنا وإلى حد قريب ضمن أشكال المعرفة والتقنيات وصيغ للحكم والسيطرة أي في مجالات تطبيقية لهذه العقلانية " لقد لمسنا في كل قولة سجلناها وفي كل سلوك لاحظنه وجاهة هذا التحليل . فأشكال العقلانية المستخدمة من قبل المنظومات السياسية المعاصرة في تعاملها مع الهجرات لا تمت بأي صلة للعقل. كلمة اللاجئين تفضح في نفس الوقت الجنون الإجرامي للبلد الأصلي الذي هربوا منه هولاء والجنون الإداري بأشكاله التخريبية المغايرة في البلدان التي قصدوها للعيش. فالعبارة المتواترة عندهم هي ...... " إنه لنظام يفضي إلى الجنون". وفعلا لا معنى للضياع الدائري الذي يكره عليه اللاجئون من رفض إلى رٍفض. وكما يقول أحد المستجوبين" في الشيشان حظوظ العيش الطبيعية منعدمة لأسباب مادية : الخطر الدائم . أما هنا فالخطر نفسي ومعنوي ويمكن أن يؤدي إلى نفس الإتلاف" .

الازدواجية والانتفاء الجمالي

هذه المنظومة تؤدي إلى جنون الساهرين على تنفيذها أنفسهم مثل مسئولي مراكز الحجز العاجزين عن الاستجابة لمطالب الإسعاف الطبي وتحسين السكن والأمن المنوط بعهدتهم، أوالأطباء والممرضين المتأرجحين بين العجز واللامبالاة أومسؤولي الإدارة العاجزين عن تقديم معلومات مبهمة ومتناقضة أو حراس الحدود والشعور بالخزي الذي  ينتابهم حيث يجبرون على معاقبة وسجن أناس لا ذنب لهم سوى إرادة العيش. يواجه اللاجئون باستمرار تعليمات أوروبية موسومة بهذا العار وبفقدان المعنى والجنون إداري اللّصيق بالقرارات القانونية والسياسية المعبرة عن ازدواجية منطوق الأنظمة. فالقوانين الحامية لفظا للاجئين هي نفسها التي تعرضهم إلى كل المخاطر وترمي بهم في فضاء اللاقانون واللامكان.

اللامكان هو ما يمكن تسميته انتفاء الجمالية فحرمان الناس من السكن ليس فقط منعهم من البقاء جسديا بل أيضا منعهم من تمثّل ذواتهم بالانخراط في الفضاء المشترك الذي يخول وحده للفرد تشخيص إنسانيته كما وضحت ذلك حنا أرنت في مؤلفها ضد الإمبريالية في سياق حديثها عن " الذين لا حق لهم"

سيرورة انتفاء الذات مرتبطة بهذا التناقض الجذري بين تلاشي الحدود الفاصلة بين القنوات المالية وشبكات الاتصال بمفعول العولمة المتواصلة وتنامي الحدود الحائلة دون تنقل البشر. حداثة الفضاءات الاقتصادية في مواجهة تصور عتيق للفضاءات الوطنية.

هذا العمل الميداني الذي أنجز في مراكز اللاجئين في بولونيا، وخصوصا أصيلي الشيشان، مكّننا من إبراز مستويات مختلفة من الانفصام المميز للبيو- سياسة ليس فقط كنظام للمراقبة   كما حدده فوكو ولكن أيضا كمجموعة من التناقضات الداخلية لنظام المراقبة المتنامية وانخرامها المتواصل. فالمهاجرون يواجهون باستمرار الازدواجية القانونية والسياسية التي تجعل من مبدأ "تنظيم تيار الهجرة"  مدخلا لنفي الأشخاص. هذه الازدواجية المعاصرة بمنطقها القانوني ذي الوجهين المبني على التمويه على واقع العنف هي أساس الانحراف الجذري للسياسي و هي ازدواجية معولمة لها تأثير إرهابي فعلي على المهاجرين. فالفرد المهاجر المسخّر لتهافت منطق التخلي والحماية في نفس الوقت يبقى دائما مهددا بصفة ضمنية وجنونية (بالمعنى الاصلي) بالفناء. 

 

 ترجمه عن الفرنسية الأستاذ هشام عبد الصمد