اليونان والعرب ونحن

Irène ROSIER-CATACH | Marwan RASHED | Alain LIBERA de | Philippe BÜTTGEN

المترجم : ABDESSAMAD Hichem


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

سؤال

اقترنت مسألة الهوية الأوروبية في الفترة الأخيرة بعدة سجالات حول الترجمة وتوارث المعرفة. وكان النقاش في ظاهره تبادلا بين علماء متبحّرين متّسما بجدّية الإختصاص وبُعد النّظر. وتمحور حول مدى إسهام الترجمات العربية للمؤلفات العلمية والفلسفية اليونانية في نشر هذه المعرفة داخل الغرب الوسيط.

بعد قرن من البحث حول الموضوع، يريد البعض إعادة تقدير هذا الإسهام والحطّ من شأنه. فـ"اللاّتينيون" في عرفهم لم يكونوا في حاجة البتّة لوساطة العرب وما كان لهؤلاء أن يتملكوا المعرفة اليونانية. وتتتالي هكذا العموميات حول كنه الأديان و"الحضارات" وحول التنافر الجوهري بين "الحضارة اليهودية-المسيحية" المتفتحة والمرحّبة بالآخر و"الحضارة الإسلامية" المنغلقة والعدوانية.

ما الذي حصل ؟ هل أنّ الخوف من العرب والوجل من الإسلام قد اقتحما الحقل العلمي ؟ هل دقّت ساعة تسوية الحساب مع الإسلام بنفي "الدّيْن" ؟ على أية حال لقد أعلن البعض أنّ نقاوة الغرب لا تشوبها شائبة. 

هنا يكمن الجديد : لقد أضحى الإسلام محلّ جدل يقترن فيه البعد السياسي بالرهان المعرفي. بعبارة أوضح لقد أصبح لتيّار معاداة الإسلام ممثّليه في الحقل العلمي. هناك اليوم معاداة "عالمة" للإسلام.

ومن ثمّ فإنّ الردّ على هذا التيار لا يمكن إلاّ أن يكون معرفيا وسياسيا، من لدن أصحاب الإختصاص المطالَبين اليوم بدخول حلبة النقاش انطلاقا من كفا آتهم الخصوصية.

من الوجهة التاريخية، يمثل هذا الكتاب بيانا ينادي بتواصل البحوث العربية اللاّتينية في العصر الوسيط. وعلى الصعيد السياسي، يمثل بيانا من أجل الإعتراف بالهويات المركبة والمتنوعة. وتحتوي على تعريف لمضمون مفاهيم مثل "عربي"، "لاتيني"، "يوناني"، "يهودي" خلال العصر الوسيط وعصر النهضة، وتقييم لمكانة كل الفاعلين في التواصل والتوارث اللغوي للعلوم والفلسفة. كما أنّه يحتوي على إحالات للمنطوق وغير المنطوق في الخطاب الكاتوليكي الجديد للبابا بندكتوس السادس عشر، أو لدى مؤرّخي الحضارات على شبكة الانترنيت كما في التعليم الإعدادي والثانوي.

تلك هي المواضيع التي يتناولها كتاب اليونان والعرب و نحن المسخّر لتفكير جماعي حول تكوّن ال"نحن" الأوروبية عبر تاريخ النقل أو التوارث المعرفي.

اللّحظة الفلسفية العربية 

يبدو جليّا، في أيامنا هذه أكثر من أي زمن مضى، أنّ الإلمام بهذه اللحظة العربية ضروري لامتلاك نظرة شمولية لتاريخ الفلسفة وما يعنيه ذلك من تثوير عميق لهذه النظرة. وذلك لأسباب عديدة أوّلها وقائعي: فعديد النصوص اليونانية مدوّن أيضا باللغة العربية وأحيانا باللغة العربية فقط. ذلك هو الحال في مجال الرياضيات لنصف آثار ديفنتس وأبولونيوس، ولكتاب هام لبابّوس في علم الفلك والبصريات، ومعظم مؤلفات بطليموس مدونة باللغة العربية أو اللاتينية المترجمة عن العربية كما هو الشأن بالنسبة لآثار غالينوس في مجال الطبّ، وفي مجال الفلسفة بالنسبة للأعمال الجوهرية لإسكندر الأفروديسي، أكبر المشائين () في العصور القديمة، وأعمال تمستيوس وسبليسيوس ويوحنّا فيليبون... أي لأهمّ ما أنتجته المدرسة الأرسطية ابتداء من القرن الثاني بعد الميلاد. حيث يصعب اليوم البحث في الرياضيات الهلينية أو الفلسفة الإمبراطورية دون امتلاك العربية. وقد اكتشف ذلك كثيرون قبلنا. إذ عمد العلماء الأوروبيون، منذ القرن السابع عشر، إلى حفريات معرفية لتقصّي التقليد العربي واستعماله. مثال ذلك الترجمة التي قدّمها عالم أوكسفورد هالاي "عالم الفلك الشهير" في نهاية نفس القرن لكتب أبولونيوس الثلاثة الأخيرة وهي تمثل قمة الرياضيات اليونانية ، ولم يتسنّ له ذلك إلاّ بالعودة على النصوص العربية حيث أُتلِف الأصل اليوناني.

الجديد اليوم هو الوعي المتنامي بضرورة فهم ما حصل في البلدان الإسلامية للإحاطة بالتاريخ الطويل لتقاليد عدّة كنّا نخالها أوروبية محضة. وغايتنا هنا ليست التذكير بمرارة بأسبقية معرفية ما بقدر ما هي التشديد على الحركية الطبيعية وأهمية الوقوف على ثمارها. فالخيار بسيط: إمّا التسليم بأهمية التقاليد المذهبية ويعني ذلك، عاجلا أم آجلا، بلورة الخيط العربي الرابط بالأصول الإغريقية والكلاسيكية والذي غاب عنّا سابقا، وإمّا أن نفضّا الإشكالات النظرية المحضة وخوض مجالات لم تطأها بعد قدم الباحثين.مثال ذلك عشرات المؤلفات العربية حول "مفارقة الكذّاب" التي لم يفتحها أحد تقريبا رغم غزارة الدراسات المتعلقة بالإشارات اليونانية الثلاث لهذا البرهان.

سجال 

ككل الكتب يتنزل هذا الكتاب في سياق خاص، ألا وهو صدور كتاب للمؤرّخ سيلفان غوغنهايم ربيع 2008 بعنوان أرسطو في جبل القدّيس ميخائيل: الجذور اليونانية لأوروبا المسيحية وما لاقاه من صدى غير معهود بالنسبة للكتب المختصة. فقد تتالت العناوين المفخّمة على أعمدة الصحف منوّهة بأطروحات الكتاب: "من قال أنّ أوروبا مدينة للإسلام في علومها؟" (جريدة لو موند، ملحق الكتب 4 أفريل 2008)وسرعان ما تمّ التقريب بين خطاب البابا في راتسبون في سبتمبر 2006 وأفكار غوغنهايم (لو فيغارو الأدبي، 17 أفريل 2008). أمّا عن الحمّى التي استشرت في مدوّنات الانترنيت فحدّث ولا حرج. وبالمقابل توالت العرائض التي حرّرتها المجموعة الدولية للمؤرخين في الفكر الوسيط وأهمّها العريضة الصّادرة في 30 أفريل 2008 في جريدة ليبراسيون بعنوان "نعم، الغرب المسيحي مدين للعالم الإسلامي".

نقدّم في ما يلي مقتطفات من كتاب اليونان والعرب ونحن الذي نشر في سبتمبر 2009 بدار فيّار التي سمحت لنا، مشكورة، بذلك. يبرهن المقتطف الأول على وجود سياق فرنسي خصوصي للقضية فلا غرابة أن يأتي هذا النفي المدوّي للإرث العربي في الفكر الغربي من بلد يشهد سجالا عنيفا حول مفاهيم مثل الهوية الوطنية والجذور المسيحية والتقييم الإيجابي للاستعمار الفرنسي في العالم الإسلامي (منذ اقتحام الجزائر سنة 1830)  وذلك تحديدا منذ انتخاب رئيس الجمهورية الجديد سنة 2007. وهو ما حدا بنا إلى استعمال عبارة "استعراش" (Restauration) لتوصيف هذا النفي لتراث الأنوار. ولئن اكتست هذه الظاهرة أبعادا هائلة في فرنسا بالذات فهي تعني في الواقع أوروبا بأسرها، حيث يكمن الرهان وراء الصّراعات الفكرية الدائرة في ضرورة الانفتاح على العالم عبر الترجمة وتواصل المعرفة أو عدمها.

نكوص المعرفة*

: 1811 سنة إنطفاء الأنوار فلسفة وثورة. في نفس السنة صرّح شاتوبريان في كتابه مسار من باريس إلى القدس أنّ على المسافر إلى الأرض المقدّسة التدرّع بأفكار وغايات وعواطف قدماء الحجيج مُضيفا : "بما أنّ رعايا عمر بعد خروجهم من القدس قد طافوا بإفريقيا قبل الهجوم على صقلية وأسبانيا ففرنسا أين تعرّض لهم شارل مارتيل وقضى على دابرهم يحقّ لرعايا فيليب الأوّل الخارجين من فرنسا الطواف بآسيا قبل الانتقام من سلالة عمر داخل القدس نفسها". وفعلا، شهدنا آنذاك يقظة الحاج القديم للقضاء على رعايا عمر وورثتهم بعد عشرين سنة من كتابة هذه الخواطر أي عند الاستيلاء على الجزائر وتفكيك أوصالها.

 2008: أو الاستعراش الثاني. بعد الإعلان عن بعث متحف لتاريخ فرنسا بهدف "تعزيز هوية البلاد" وإعلاء "الروح الفرنسية" ها هو المؤرخ سيلفان غوغنهايم المختصّ في تاريخ فرسان الجماعة التوتونية ينشر كتابا ليبرهن أنّ المعرفة العلمية لم تعبر العالم الإسلامي إلاّ في فترة متأخّرة ولم يصل منها إلى أوروبا اللاتينية عبر هذه القناة إلاّ النزر القليل. ويتساءل الكاتب : "إذا ما سلّمنا إلى أنّ أوروبا مدينة بنهضتها إلى الإسلام علينا أن نفهم لماذا لم يساهم هذا الأخير في هذه النهضة, فغالبا ما نلاحظ استنقاصا للماضي الأوروبي وتفخيما لتاريخ الإسلام. العار والكبرياء وجها لوجه. أنّى للحوار المثمر أن يقوم إذن ؟"[1]

الموازنة الوحيدة التي يمكن إقامتها بين هذا الكاتب وشتوبريان هي تأقلم كلّ منهما مع زمانه، وما يلفت النظر هو أنّ كلّ نكسة في فرنسا تصحبها مواجهة للعرب. لنتأمّل هذه الجملة التي تبدو وكأنّها انزلقت جزافا من قلم الكاتب : "العار والكبرياء وجها لوجه". العار هو طبعا حظّ الأوروبي المتندّم والكبرياء من جانب المسلم المتبجّح والمخيف. أهي حملة صليبية جديدة تتلو حملة شتوبريان ؟ لا بل تقليد أحمق لتقليد باهت. تقليد كاريكاتوري وفي نفس الوقت محاولة لافتكاك زمام الأمور. فهذه المراجعة لتاريخ الإسلام الوسيط يقدّمها أصحابها صراحة على أنّها قرار مرافق للتعبئة الجدّية التي تلت أحداث 11 سبتمبر. يقول س. غوغنهايم في هذا الصدد : "غريب حقّا هذا الدعاء المُلِحّ إلى تدريس الإسلام وكأنّه ديانة مسالمة. في حين يتعرّض العالم الغربي إلى عملية حربية، غريب هذا التذكير بالعنف في تاريخ الغرب. من عساهم يريدون إقناعه بالامتناع عن ردّ الفعل ؟"[2]

يحتوي الكتاب على عديد التصريحات من هذا القبيل :عقم اللغة العربية الفلسفي؛ نزوع الإسلام إلى العنف المذهبي؛ المزايا الواضحة لاستهلاك لحم الخنزير على ضفاف الحوض المتوسّط. كلّ هذه التقييدات لا قيمة لها في حدّ ذاتها لكنّ التبرّم من الإسلام مقترن بمشروع تاريخي جديد احتضنته بكل حماس الوسائط المساهمة في بناء الرأي العامّ.

هنا لبّ المسألة : كتاب  أرسطو في جبل القدّيس ميخائيل  يرمي إلى تطوير رؤية للعالم ملائمة لفلسفة التاريخ التي يجسّدها ساركوزي والمتمحورة حول ثلاثة أركان رئيسية :

1.    الانتصار لفرنسا المسيحية وتزكية "معطف الكنائس العريض" الذي يلفّ أريافها ؛

2.    التنويه بـ"الدور الإيجابي" للاستعمار الفرنسي. فكما لا يخفى على أحد، أوروبا هي مهد العلوم بامتياز ؛

3.    السعي لـ"التصفية" النهائية لآثار ماي 68.

وقد يبدو مدهشا أن يحظى كاتب يجهر بانحيازه للدّوكسا الإيديولوجية ولدعاتها الرسميين (على سبيل المثال محرّر خطاب داكار الشهير، 26 جويلية 2007) بسمعة الثائر المستقلّ والشجاع في العديد من وسائط الإعلام. لهذه المفارقة أكثر من مغزى حول زمننا.

شهدت فرنسا خلال الخمسين سنة الماضية نشاطا حثيثا للبحوث التاريخية  وبفضله شكّلت مختلف التيارات، ابتداء بمدرسة الحوليات (Les Annales) ووصولا إلى الميكروستوريا (La Microhistoire)، فضاء للإبداع النظري. والحصيلة هي اعتقادنا اليوم أنّه لا وجود التاريخ المسلَّم به ولا لأشياء قائمة منذ الأزل، لا وجود لِكُنْه مسبَّق وبديهي يفرض نفسه على بحوث الباحثين. بعبارة أخرى لا توجد "مذاهب" ولا "حضارات" ولا "ثقافات" ولا "معارف" جاهزة للعبور (أو عدم العبور) من قارّة إلى أخرى أو من "الشرق" إلى "الغرب". يعني ذلك أنّه رغم الدّور الذي يتقمّصه الإسلام لدى الدّارسين الجدد وهو أشبه بدور الشرير في لعبة الكاتش فالخطر كلّ الخطر هو الدخول في مثل هذه اللعبة. وفي ذات الوقت، إنّ تواتر هذه الظاهرة وسفورها الفاضح يشكّل تحدّيا للعلوم الإنسانية لا تجدر الاستهانة به. فالتساهل والاكتفاء بتعداد الحماقات التي ينطوي عليها كتاب غوغنهايم ليس أمثل الحلول. فمهما كانت ضحالته وجهله بالموضوع، هذا النص حامل لرؤية وبرنامج يتمثّلان في العودة إلى مقولة التنابذ المبسَّط بين الجوهر والجوهر، بين الخطاب والخطاب، بين الحضارات وثقافاتها، بين الفضاءات وبين الديانات. كم تعسر مواجهة هذه الخطابة كما يعسر التذكير بتعقيد الواقع، حتّى لا نخلط مثلا بين علماء الإسلام والمثقفين الإسلامويين. ويصعب، تبعا لذلك، تفسير العملية المركَّبة المتمثلة في نقل المعارف  التي يمتزج فيها تاريخ الفلسفة بتاريخ العلوم وتاريخ التقنيات بعلم الكلام وكذلك بدعاية الحكام ومناهج التعليم والتبادل التجاري... فقط بعد اعتبار كل هذه العوامل يمكننا أن نفهم سيرورة العلوم والفلسفة بين العالم الإسلامي وأوروبا. أمّا تبويب الكتب المترجَمة وترتيب العلماء كلّ حسب السلالة الدينية التي ينحدر منها فهي مناهج هشّة لا جدوى لها.

المنعرج المعرفي للإسلاموفوبيا 

كتاب أرسطو في جبل القدّيس ميخائيل يؤشّر لظاهرة لم تلفت الانتباه حتى صدوره ألا وهي النزوع إلى تكليف الخبراء بنشر الإسلاموفوبيا. والمقصود طبعا ليس الفتوة المتطرّفين، ولا غلاة الاستعمار المتقاعدين، ولا "المتبحّرين" فمعظمهم على ما يبدو من عبدة الإسلام، بل خبراء من صنف جديد، ذوي علم وشهادات وأحيانا من أصحاب الجوائز مثل غوغنهايم الذي فاز بفضل كتابه أعلاه بتكريم أكاديمي.  فنزعة معاداة الإسلام تحضى اليوم بصيت وبريق لم تعهدهما من قبل. ذلك أنّ س. غوغنهايم ومن لفّ لفّه من الملهمين والأنصار توصّلوا إلى صياغة النمط المثالي للإسلاموفوبيا العالمة. لنحاول تحديد بعض سماتها الأساسية :

 -الإسلاموفوبيا العالمة تبدو معتدلة. فلا أحد من وجوهها يجرؤ على الادّعاء أنّ أوروبا في حلّ من كلّ دَيْن لدى العرب. فهم يقتصرون على فضح المبالغات والتساؤل على أسبابها. يقترح كتاب أرسطو في جبل القدّيس ميخائيل   في هذا المضمار تعديل الميزان، باسم العلم طبعا (ص. 83).وتبلغ الأمانة بالمؤلف إلى حدّ الإقرار بانّ دور العلوم العربية ظلّ مجهولا لزمن طويل. الاستخلاص الضمني لهذا المنطق هو الدعوة إلى تلافي الخطأ العكسي أي التقدير المفرط لهذا الدور وما يعنيه ذلك من "احتقار الذات"[3]. فاللإسلاموفوبيا العالمة تحسن الكيل ولا تروم الصياح والهراء.

- الإسلاموفوبيا العالمة تدّعي الاختزال. يعتقد البعض أنّه من الضروري معرفة اللغة والقدرة على كتابة وقراءة ولو بعض الصفحات من العربية قبل الإفتاء بعبقرية الإسلام. يا لها من ترّهات. في حين يسهر البعض ويشقون لتأويل كلمة واحدة لا يتوانى وجوه الإسلامافوبيا العالمة عن اختزال سلسلة كاملة من الكتب أو المخطوطات في جملة واحدة.

- الإسلاموفوبيا العالمة لا تحبّذ المتساهلين. من مدارس الاستشراق تيار أسسه لويس ماسينيون يؤمن بمزايا الحوار بين الديانات ويدافع على أفكار غريبة مثل الإثراء المتبادل بين الروحانيات الإسلامية والمسيحية بل يدّعي تجاوز عقلية التفوّق وتدعو إلى تقريب المسافات. مثل هذه الأريحية مريبة حقّا لدى بعض الدومينيكيين مثلا  فما بالك إذا صدرت عن باحث مسلم. ذلك ما تنبّهنا إليه الإسلاموفوبيا العالمة . [4]وإذا اعتبر أنّ هذه الريبة تعكس شكّا في قدرة الآخر على الحوار أو في قدرتنا نحن على خوضه فعلا فذلك من باب التأويل المغرض.

- الإسلاموفوبيا العالمة تبدو انتقائية. فهي لا تشجب الخرافات الاسطغرافية مثل "العصر الذهبي" و"القرون الكبرى" بل تركّز كل اهتمامها على قرطبة وبغداد. أمّا في التاريخ الأوروبي فهي تؤكّد على دور كوبرنيك وتتناسى غاليليو وتلهج بذكر القدّيس طوماس الإكويني وقلّما تشير إلى المحاكمات الدينية وتلحّ على اليقظة اليونانية وقلّما تشير إلى اضطهاد الكلفينيين. ربّما يعزى ذلك إلى صعوبة الإحاطة بكل شيء وضرورة التركيز على الجوهر. ربّما.

-الإسلاموفوبيا العالمة تصبو إلى الدقّة. وغاية ما تهوى هو التمييز. فهي تعلّمنا أن نميّز نهائيا بين اليوناني والعربي، وبالتالي بين العرب ونحن. وتهيب بنا ألاّ نخلط بين دار الإسلام والإسلام ذاته، وهي حُجّة متواترة مفادها أنّ عملية النقل الحاصلة جاءتنا من الإسلام كحضارة وكثقافة لا من الإسلام كدين[5]. وليس أدلّ عليه من دور العرب المسيحيين وجهابذة المترجمين عندهم. يكفي في تلك الربوع أن تكون مسلما حتّى تجهل الترجمة والنقل. هكذا ينتهي واجب التمييز عندما يتبدّى تعقيد الواقع.

اعتدال فتوازن فتدقيق مموه تلك مواصفات أسلوب المعرفة في زمن الاستعراش وتتسم في مجملها بالردّ الرجعي إذ ترمي إلى مراجعة ما حدّدته بنفسها على أنّه "دوكسا" معرفية تزعم أنّ نقل العلوم اليونانية نحو الغرب اللاتيني من فعل العرب. في الواقع، لم تشهد المعرفة مثل هذا الإخراج الدرامي منذ زمن طويل. فقضية غوغنهايم تحاكي مسرحية مغلقة ثلاثية التمثيل : جمهور متعطّش للمعرفة وباحثون زائغون وخبير منتصب لتعرية الخديعة متقمّصا ضمير "نحن" بمختلف معانيه ؛ إذ يحيل تارة إلى الانتماء الهوياتي (عرب أو يونان أو أوروبيين) وتارة إلى الانتماء المعرفي ("نحن" السواد الأعظم، "نحن" العلماء، "نحن" المبسّطون). هذه الظاهرة الثلاثية بُعِثت لتبقى وربما لزمن طويل. ذلك ما سوف نحاول تقصّي معانيه.

اليونان والعرب ونحن

لنتمعّن في مكوّنات هذه التركيبة. في البدء، نجد ثنائية "نحن واليونان" التي تحيلنا إلى قرن الرومانسية الألمانية الذي يصل بين هولدرلين وفيلاموفيتز أي بين الحلم الأدبي والعلم المحيط. ثمّ تأتي ثنائية "نحن والعرب": قرن كامل هنا أيضا، من الاستعمار إلى ما بعد الاستعمار، قرن من الاكتشافات والريبة، من بيير لوتي إلى ادوارد سعيد. أمّا ثنائية "اليونان والعرب"، فهي في البداية من حبك مؤرّخي القرون الوسطى.   إذ تمثّل هؤلاء عقلانية يونانية عربية معارضة تماما للعالم اللاتيني الوسيط وللعلوم الثيولوجية المهيمنة داخله والمتذبذبة بين ما فوق الطبيعة والحرية، أي المشدودة إلى الفكر الطومي والطومي الجديد في صيغته القوية كما بلورها إتيين جيلسون. أمّا الثنائية النامية اليوم فهي "اليونان ضدّ العرب"، وذلك باسم "اللوغوس المسيحي الأكبر" ولها علاقة بالطومية الجديدة ولكن في صيغتها الهزيلة كما عبّر عنها بندكتوس السادس عشر في خطابه في راتسبون وكما عبّرت عنها مقولة تخليص المسيحية من الإرث الهلّيني.

نحن نرفض كل هذه الثنائيات:  نحن واليونان؛ نحن والعرب؛ اليونان والعرب. ولكن من "نحن"؟ تقول الجوهرانية العرب هم العرب، علينا إذن أن نكون شيئا آخر. ربّما تستقيم هذه الأطروحة إذا ما سلّمنا أنّ كلمة "عربي" تحيل إلى القرآن وإلى ابن رشد ليس إلاّ؛ وأنّ كلمة "يونان" تعني أرسطو والأناجيل وشيئا يشبه بيزنطا. تلك هي المعرفة كما يعرّفها خبراؤنا.لكن هل هي معرفة بحق والحال أنّها محت كلّ أثر لليهود ونسيت حتى اللاتينيين ("نحن اللاتينيون" شعار العلماء وعلماء الدين على حدّ السواء في العصر الوسيط) ؟ عصر وسيط هزيل ومنقوص، وأوروبا بل عالم مبتور.أي "نحن" يقوم على مثل هذه النقائص؟

اليونان والعرب ونحن : لا سبيل لفصم هذه الثلاثية في رأينا، نحن معشر المؤرخين والفلاسفة. إنّ النصوص التالية لا ترمي إلى المقارنة بين الأحداث أو بين الأشخاص، لا بين اليونان والعرب، ولا بين هؤلاء واللاتينيين، ولا بين المسيحيين والمسلمين، ولا بين الشرق والغرب. لقد تعمّدنا فيها تلافي "مواطن الذاكرة" بغداد وقرطبة كما آثينا وأكسفورد وجبل القدّيس ميخائيل. حاولنا بالمقابل كشف الخيوط الرابطة بين النقاط وملء الفراغات وتتبع "السيرورة الخفية" للمادّة المذهبية[6] كما يقول جيلسون. مجمل هذه النصوص تستهدف الدفاع عن أطروحة التواصل ووحدة المعرفة العربية-اللاتينية وإلى نبذ منهجية "الأكثر" و"الأقلّ" (يونانية أكثر هنا وعروبة أقلّ هناك أو العكس) ومقولة "كفى مبالغة" التي ينادي بها خبراء الاستعراش.

إنّ برنامجهم كما يطرحونه سياسي المرمى. العرب واليونان ونحن؟ أعلينا أن نجزم "نحن" يونان وعرب حتى وإن أثار ذلك جزع دعاة الرجعية المعرفية؟ فالانتماء لا يعدو أن يكون "رغبة في الانتماء"، والهوية و"الإعلان عن الهوية"[7] سيّان. فهذه الهوية، يونانية كانت "أم" عربية، يونانية وعربية "لإنّها" لاتينية و"لأنّها" يهودية…هي على أية حال مجازية، أي إختيارية ككلّ انتماء هويّاتي. ولعلّها أكمل أو أنقص من غيرها، لكنّها في هذا المعنى "على الأقلّ" أقرب إلى الحقيقة.

بقي أن نعرب عن سبب اختيارنا هذا. تقول الإسلاموفوبيا العالمة : "العرب عرب" مخافة أن نزعم أنّهم من "أصل" يوناني أيضا كما سوف نفعل. "هم" العرب بضمير الغائب، أولئك الذين نشير إليهم عن بعد في ضواحي المدن أوفي الجامعات أو في أنهج المعرفة المعادية للإسلام. من يجرؤ اليوم على الإصداع "نحن العرب" دون أن يكون محلّ ريبة؟ لذلك بالذات سوف نعلنها "نحن". اليونان والعرب. ونحن ؟  نحن اليونان طبعا، نحن العرب أيضا، نحن اللاتينيون، نحن اليهود، نحن كلّ الغائبين عن معرفتهم، نحن كلّ الآخرين، كلّ الذين لا مكان لهم في معرفتهم المختزلة مهما سمّيت، "هلّينية-مسيحية" أو غيرها، نحن المستهجَنون.

 

 

ترجمه عن الفرنسية الأستاذ هشام عبد الصمد

 

 


* المقال منشور في كتاب "اليونان والعرب ونحن" الصادر عن فيار, باريس, 2009

 



 [1] سيلفان غوغنهايم،  أرسطو في جبل القدّيس ميخائيل : الجذور اليونانية لأوروبا المسيحية،  باريس، نشر سوي، سلسلة "دنيا التاريخ"، 2008، ص.17.

 [2]  نفس المصدر، ص. 261.

 [3] ريمي براغ، «Das islamische Volk ist das belogenste» ، حوار مع دورية  دي براس (فينّا) ، 22 أفريل 2008.

[4] نفس المصدر، "هل كان ابن رشد متساهلا" في وسط العصر الوسيط. الفلسفات الوسيطية، المسيحية و اليهودية والإسلام، نشرة جديدة منقّحة ، باريس، فلماريون، 2008، ص.397-412Au Moyen du Moyen Âge. Philosophies médiévales en chrétienté, judaïsme et islam 

[5] "أين يكمن إسلام الفلسقة الإسلامية ؟"، نفس المصدر، ص. 108-132.

[6]  إتيان جيلسون، الفلسفة الوسيطية،au Moyen Âge. La Philosophie ، نشرة جديدة، نشرة جديدة منقّحة

[7]  ألان دي ليبيرا، الفكر في العصر الوسيط، Penser au Moyen Âge، باريس، سوي، سلسلة "نقط"، 1996، ص. 105.